التفاسير

< >
عرض

هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً
١١
وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً
١٢
وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً
١٣
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً
١٤
وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً
١٥
-الأحزاب

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة، وأما المنافق فيلقي السلم ويدخل داره الذل بالموافقة على جميع ما يراد منه، ترجم حال المؤمنين قاصراً الخطاب على الرأس لئلا يدخل في مضمون الخبر إعلاماً بأن منصبه الشريف أجلّ من أن يبتلى فقال تعالى: { هنالك } أي في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة { ابتلي المؤمنون } أي خولط الراسخون في الإيمان بما شأنه أن يحيل ما خالطه ويميله، وبناه للمجهول لما كان المقصود إنما هو معرفة المخلص من غيره، مع لعلم بأن فاعل ذلك هو الذي له الأمر كله، ولم يؤكد الابتلاء بالشدة لدلالة الافتعال عليها، وصرف الكلام عن الخطاب مع ما تقدم من فوائده، وعبر بالوصف ليخص الراسخين فقال: { وزلزلوا } أي حركوا ودفعوا وأقلقوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة، وتطاير الأراجيف { زلزالاً شديداً * } فثبتوا بتثبيت الله لهم على عهدهم.
ولما علم بهذا أن الحال المزلزل لهم كان في غاية الهول، أشار إلى أنهم لم يزلزلهم بأن حكى أقوال المزلزلين، ولم يذكر أقوالهم وسيذكرها بعد ليكون الثناء عليهم بالثبات مع عظيم الزلزال مذكوراً مرتين إشارة وعبارة، فقال: { وإذ } وأشار إلى تكريرهم لدليل النفاق بالمضارع فقال: { يقول } أي مرة بعد أخرى { المنافقون } أي الراسخون في النفاق، لأن قلوبهم مريضة ملائ مرضاً { والذين في قلوبهم مرض } أي من أمراض الاعتقاد بحيث أضعفها في الاعتقاد والثبات في مواطن اللقاء وفي كل معنى جليل، فهم بحيث لم يصلوا إلى الجزم بالنفاق ولا الإخلاص في الإيمان، بل هم على حرف فعندهم نوع النفاق، فالآية من الاحتباك: ذكر النفاق أولاً دال عليه ثانياً، وذكر المرض ثانياً دليل عليه أولاً، وهذا الذي قلته في القلوب موافق لما ذكره الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من عوارفه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهو، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس، فذلك قلب الكافر، وقلب مربوط على غلاف، فذلك قلب المنافق، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأيّ المدتين غلبت عليه حكم له بها" وروى هذا الحديث الغزالي في أواخر كتاب قواعد العقائد من الإحياء عن أبي سعيد الخدري، وقا الشيخ زين الدين العراقي: أخرجه أحمد.
ولما كان المكذب لهم بتصديق وعد الله - ولله الحمد - كثيراً، أكدوا قولهم وذكروا الاسم الأعظم وأضافوا الرسول إليه فقالوا: { ما وعدنا الله } الذي ذكر لنا أنه محيط الجلال والجمال { ورسوله } أي الذي قال من قال من قومنا: إنه رسول، استهزاء منهم، وإقامة للدليل في زعمهم لهذا البلاء على بطلان تلك الدعوى { إلا غروراً * } أي باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله، والتمكين في البلاد حتى في حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له في ضربه لصخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور وكسرى بالحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه سيظهرون على ذلك كله وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك ابن جعشم سوارى كسرى بن هرمز كما هو مذكور مستوفى في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم. ففاز المصدقون، وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
ولما ذكر ما هو الأصل في نفاقهم وهو التكذيب، أتبعه ما تفرع عليه، ولما كان تخذيلهم بالترجيع مرة، عبر عنه بالماضي فقال: { وإذ قالت } أنث الفعل إشارة إلى رخاوتهم وتأنثهم في الأقوال والأفعال { طائفة منهم } أي قوم كثير من موتى القلوب ومرضاها يطوف بعضهم ببعض: { يا أهل يثرب } عدلوا عن الاسم - الذي وسمها به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وطيبة مع حسنه - إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع احتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف, إظهاراً للعدول عن الإسلام, قال في الجمع بين العباب والمحكم: ثرب عليه ثرباً وأثرب، بمعنى ثرب تثريباً - إذا لامه وعيّره بذنبه وذكره به. وأكدوا بنفي الجنس لكثرة مخالفتهم في ذلك فقالوا: { لا مقام لكم } أي قياماً أو موضع قيام تقومون به - على قراءة الجماعة بالفتح، وعلى قراءة حفص بالضم المعنى: لا إقامة أو موضع إقامة في مكان القتال ومقارعة الأبطال { فارجعوا } إلى منازلكم هراباً، وكونوا مع نسائكم أذناباً، أو إلى دينكم الأول على وجه المصارحة لتكون لكم عند هذه الجنود يد.
ولما ذكر هؤلاء الذين هتكوا الستر، وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر، أتبعهم آخرين تستروا بعض التستر تمسكاً بأذيال النفاق، خوفاً من أهوال الشقاق، فقال: { ويستأذن } أي يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء { فريق منهم } أي طائفة شأنها الفرقة { النبي } وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق، والخلق، وما لديه من جلاله الشمائل وكريم الخصائل، ولم يخشوا من إنبائنا له بالأخبار، وإظهارنا له الخبء، من مكنون الضمائر وخفي الأسرار، حال كونهم { يقولون } أي في كل قليل، مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين لهم قولهم: { إن بيوتنا } أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم المنافقين { عورة } أي بها خلل كثير يمكن من أراد من الأحزاب أن يدخلها منه، فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين، وذباً عن الأهلين.
ولما قالوا ذلك مؤكدين له، رده الله تعالى موكداً لرده مبيناً لما أرادوا فقال: { وما } أي والحال أنها ما { هي } في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه، وأكد النفي فقال: { بعورة } ولا يريدون بذهابهم حمايتها { إن } أي ما { يريدون } باستئذانهم { إلا فراراً * } ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم. فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زوراً, بين الله ذلك ودل عليه بالإسناد إلى الدور تنبيهاً على أنها ربة الحماية والعمدة فقال: { ولو دخلت } أي بيوتهم من أيّ داخل كان من هؤلاء الأحزاب أو غيرهم، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف، وعبر بأداة الاستعلاء فقال: { عليهم } إشارة إلى أنه دخول غلبة { من أقطارها } أي جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب.
ولما كان قصد الفرار مع الإحاطة بالدار، من جميع الأقطار، دون الاستقتال للدفع عن الأهل والمال، بعيداً عن أفعال الرجال؛ عبر بأداة التراخي فقال: { ثم سئلوا } أي من أيّ سائل كان { الفتنة } أي الخروج منها فارّين، وكأنه سماه بها لأنه لما كان أشد الفتنة من حيث أنه لا يخرج الإنسان من بيته إلا الموت أو ما يقاربه كان كأنه لا فتنة سواه { لأتوها } أي الفتنة بالخروج فراراً، إجابة لسؤال من سألهم مع غلبة الظن بالدخول على صفة الإحاطة أن لا نجاة، فهم أبداً يعولون على الفرار من غير قتال حماية لذمار او دفعاً لعار، أو ذباً عن أهل أو جار، وهذا المعنى ينتظم قراءة أهل الحجاز بالقصر وغيرهم بالمد، فإن من أجاب إلى الفرار فقد أعطى ما كأنه كان في يده منه غلبة وجبناً وقد جأءه وفعله.
ولما كان هذا عند العرب - مع ما لهم من النجدة والخوف من السبة - لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيده في زيادة تصويره فقال: { وما تلبثوا بها } أي البيوت { إلا يسيراً * } فصح بهذا أنهم لا يقصدون إلا الفرار، لا حفظ البيوت من المضار، ويدلك على هذا المعنى إتباعه بقوله مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار والحلف بالكذب: { ولقد كانوا } أي هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار مع الدخول عليهم على تلك الصفة من سبي حريمهم واجتياح بيضتهم { عاهدوا الله } أي الذي لا أجلّ منه.
ولما كان العهد ربما طال زمنه فنسي، فكان ذلك عذراً لصاحبه، بين قرب زمنه بعد بيان عظمة المعاهد اللازم منه ذكره، فقال مثبتاً الجار: { من قبل } أي قبل هذه الحالة وهذه الغزوة حين أعجبتهم المواعيد الصادقة بالفتوحات التي سموها الآن عندما جد الجد مما هي مشروطة به من الجهاد غروراً { لا يولّون } أي يقربون عدوهم { الأدبار } أي أدبارهم أبداً لشيء من الأشياء، ولا يكون لهم عمل إذا حمى الياس، وتخالط الناس، واحمرت الحدق وتداعس الرجال، وتعانق الحماة الأبطال إلى الظفر أو الموت.
ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال: { وكان عهد الله } أي الوفاء بعهد من هو محيط بصفات الكمال. ولما كان العهد فضلة في الكلام لكونه مفعولاً، واشتدت العناية به هنا، بين ذلك بتقديمه أولاً ثم يجعله العمدة، وإسناد الفعل إليه ثانياً فقال: { مسؤولاً * }، أي في أن يوفي به ذلك الذي وقع منه.