التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
١٥
فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
١٦
-سبأ

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظيمهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيههم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله: { فلما } بالفاء، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال: { قضينا } وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال: { عليه } أي سليمان عيله السلام { الموت ما دلهم } أي جنوده وكل من في ملكه من الجن والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد { على موته } لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم { إلا دآبة الأرض } فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح والإسكان فيصير من قبيل التورية ليشتد التشوف إلى تفسيرها, ثم بين أنها الأرضة بقوله مستأنفاً في جواب من كأنه قال: أي دابة هي وبما دلت: { تأكل منسأته } أي عصاه التي مات وهو متكىء عليها قائماً في بيت من زجاج، وليس له باب، صنعته له الجن لما أعلمه الله بأن أجله قد حضر، وكان قد بقي في المسجد بقية ليخفي موته على الجن الذين كانوا يعملون في البيت المقدس حتى يتم؛ قال في القاموس في باب الهمز: نسأه: زجره وساقه وأخره ودفعه عن الحوض، والمنسأة كمكنسة مرتبة، ويترك الهمز فيهما: العصا - لأن الدابة تنسأ بها أي تساق، والبدل فيها لازم، حكاه سيبويه - انتهى. فالمعنى أن الجن كانوا يزجرون ويساقون بها، وقرأها المدنيان وأبو عمرو بالإبدال، وابن عامر من رواية ابن ذكوان والداجوني عن هشام بإسكان الهمزة، والباقون بهمزة مفتوحة { فلما خر } أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه { تبينت الجن } أي علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً { أن } أي أنهم { لو كانوا } أي الجن { يعلمون الغيب } أي علمه { ما لبثوا } أي أقاموا حولاً مجرماً { في العذاب المهين * } من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره، ويجوز أن تكون "أن" تعليلية، ويكون التقدير: تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب، لأنهم إلى آخره، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة، وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات اللاتي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه او منام يراه أو غير ذلك، فيكون كما قال - هذا مع إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر صدقه قبل ادعائه للنبوة وبعده، وأظهر لهم من المعجزات ما بهر العقول، وقد تقرر أن كل شيء ثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو أعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته في باب البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء - انتهى. وقد ثبت مثل ذلك الشخص في بلاد شروان من بلاد فارس بالقرب من شماخى، اسم ذلك الولي محمد، ولقبه دمدمكي، مات من نحو أربعمائة سنة في المائة الخامسة من الهجرة، وهو قاعد في مكان من مقامه الذي كان البسطامية، أخبرني من شاهده ممن كذلك لا أتهمه من طلبة العلم العجم، وهو أمر مشهور متواتر في بلادهم غني عن مشاهدة شخص معين، قال: زرته غير مرة وله هيبة تمنع المعتقد من الدنو منه دنواً يرى به وجهه كما أشار تعالى إلى مثل ذلك بقوله تعالى { لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } [الكهف: 18] قال: وكان معنا في بعض المرات شخص من طلبة العلم من أهل كيلان غير معتقد يقول: إنما هذا نوع شعبدة يخيل به على عقول الرعاع، قال: فتقدم إليه بجرأة ولمس صدره ونظر في وجهه، فأصيب في الحال فلم يرجع إلا محمولاً، فأقام في المدرسة التي كان يشتغل بها في مدينة شماخي مدة، وأخبرنا أن الشيخ دمدمكي قال له لما لمسه: لولا أنك من أهل العلم هلكت، وأنه شيخ خفيف اللحية، قال: وقد تبت إلى الله تعالى وصرت من المعتقدين لما هوعليه أنه حق، ولا أكذب بشيء من كرامات الأولياء، قال الحاكي: وقد دفن ثلاث مرات إحداها بأمر تمرلنك فيصبح جالساً على ما هو عليه الآن - والله الموفق للصواب.
ولما دل سبحانه بقوله { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } الآية، على قدرته على ما يريد من السماء والأرض لمعاملة من يريد ممن فيهما بما يشاء من فضل على من شكر، وعدل فيمن كفر، ودل على ذلك بما قصه من أخبار بعض أولي الشكر، وختم بموت نبيه سليمان بن داود الشاكر ابن الشاكر عليهما السلام، وما كان فيه من الآية الدالة على أنه لا يعلم الغيب غيره لينتج ذلك أنه لا يقدر على كل ما يريد غيره، وكان موت الأنبياء المتقدمين موجباً لاختلال من بعدهم لفوات آياتهم بفواتهم بخلاف آية القرآن، فإنها باقية على مر الدهور والأزمان، لكل إنس وملك وجان، ينادي مناديها على رؤوس الأشهاد: هل من مبارٍ أو مضاد؟ فلذلك حفظت هذه الأمة، وضاع غيرها في أودية مدلهمة، أتبعه دليلاً آخر شهودياً على آية { إن نشأ نخسف بهم الأرض } في قوم كان تمام صلاحهم بسليمان عليه الصلاة والسلام، فاختل بعده أمرهم، وصار من عجائب الكون ذكرهم، حين ضاع شكرهم، فكان من ترجمة اتباع قصتهم لما قبلها أن آل داود عليه السلام شكروا، فسخر لهم من الجبال والطير والمعادن وغيرها ما لم يكن غيرهم يطمع فيه، وهو أضاعوا الشكر فأعصى عليهم وأضاع منهم ما لم يكونوا يخافون فواته من مياههم وأشجارهم وغيرها، فقال تعالى مشيراً بتأكيده إلى تعظيم ما كانوا فيه، وأنه في غاية الدلالة على القدرة، وسائر صفات الكمال، وأن عمل قريش عمل من ينكر ما تدل عليه قصتهم من ذلك: { لقد كان لسبأ } أي القيلة المشهورة التي كانت تسجد للشمس، فهداهم الله تعالى على يد سليمان عليه السلام، وحكمة تسكين قنبل همزتها الإشارة إلى ما كانوا فيه من الخفض والدعة ورفاهة العيش المثمرة للراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة، ولعل قراءة الجمهور لها بالصرف تشير إلى مثل ذلك، وقراءة أبي عمرو والبزي عن ابن كثير بالمنع تشير إلى رجوعهم بما صاروا إليه من سوء الحال إلى غالب أحوال تلك البلاد في الإقفار وقلة النبت والعطش { في مسكنهم } أي التي هي في غاية الكثرة، ووحد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد، وكسر الكسائي الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملاءمة لهم واللين، وفتحه الآخران إشارة إلى ما فيها من الروح والراحة، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن، قال حمزة الكرماني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: على ثلاث فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها المكتل وتطوف في ما بين الأشجار فيمتلىء المكتل من غير أن تمس شيئاً بيدها، وكانت مياههم تخرج من جبل فبنوا فيه سداً وجعلوا له ثلاثة أبواب فكانوا يسرحون الماء إلى كرومهم من الباب الأعلى والأوسط والأسفل، قال الرازي: كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن مغزلتها، فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار، وقال أبو حيان في النهر: ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها، وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك، فقالت لهم: لا عقول لكم، ولا تطيعوني، فقالوا نطيعك، فرجعت إلى واديهم، وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار، وحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، وكان الماء يخرج لهم بالسوية، وقال المسعودي في مقدمات مروج الذهب قبل السيرة النبوية بيسير في الكلام على الكهان، كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها، وأعذابها وأغداها، وأكثرها جناناً، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال في العرض مثل ذلك، يسير الراكب من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها، لا تواجهه الشمس ولا يفارقها الظل، لاستتار الأرض بالأشحار واستيلائها عليها وإحاطتها بها، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفعه وأهنأ حال وأرغده، في نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة، ثم ذكر خبراً طويلاً في أخبارهم, وخراب ما كان من آثارهم, وتفرقهم في البلاد, وشتاتهم بين العباد { آية } أي علامة ظاهرة على قدرتنا على ما نريد، ثم فسر الآية بقوله: { جنتان } مجاورتان للطريق { عن يمين وشمال } أي بساتين متصلة وحدائق مشتبكة، ورياض محتبكة، حتى كان الكل من كل جانب جنة واحدة لشدة اتصال بعضه ببعض عن يمين كل سالك وشماله في أي مكان سلك من بلادهم ليس فيها موضع معطل، وقال البغوي: عن يمين واديهم وشماله، قد أحاط الجنتان بذلك الوادي. وأشار الى كرم تلك الجنان وسعة ما بها من الخير بقوله: { كلوا } أي لا تحتاج بلادهم إلى غير أن يقال لهم: كلوا { من رزق ربكم } أي المحسن إليكم الذي أخرج لكم منها كل ما تشتهون { واشكروا له } أي خصوه بالشكر بالعمل بما أنعم به في ما يرضيه ليديم لكم النعمة، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله: { بلدة طيبة } أي كريمة التربة حسنة الهواء سليمة من الهوام والمضمار, لا يحتاج ساكنها إلى ما يتبعه فيعوقه عن الشكر، قال ابن زيد: لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا حية، ولا تقمل ثيابهم، ولا تعيا دوابهم. وأشار إلى أنه لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره بقوله: { ورب غفور * } أي لذنب من شكره وتقصيره بمحو عين ما قصر فيه وأثره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب، ولولا ذلك ما أنعم عليكم بما أنتم فيه ولأهلككم بذنوبكم، وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء اليمن - قال: في بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار در - تلي بلاد الشام، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكا وليس له نوى أصلاً.
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر، دل على ذلك بقوله: { فأعرضوا } ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم، بينه بقوله: { فأرسلنا } ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال: { عليهم سيل العرم } أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة، وهي الشدة والقوة، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به، قال أبو حيان: سلط الله عليهم الجرذ فاراً أعمى توالد فيه، ويسمى الخلد، فخرفه شيئاً بعد شيء، فأرسل الله سيلاً في ذلك الوادي، فحمل ذلك السد فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنان وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار. ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا: تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبا، والأوس والخزرج منهم، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم { وبدلناهم بجنتيهم } أي جعلنا لهم بدلهما { جنتين } هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم: { ذواتي أكل } أي ثمر { خمط } وقراءة الجماعة بتنوين { أكل } أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة.
ولما كان الخمط مشتركاً بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب، والله أعلم بما أراد منه، لأنه ضرب من الإراك، له ثمر يؤكل، وكل شجرة مرة ذات شوك، والحامض أو المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يؤكل، ولا يمكن أكله، وثمر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به، والحمل القليل من كل شجر، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال: { وأثل } أي وذواتي أثل، وهو شجر لا ثمر له، نوع من الطرفاء، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال: { وشيء من سدر } أي نبق { قليل * } وهذا يدل على أن غير السدر وهو ما لا منفعة فيه أو منفعته مشوبة بكدر أكثر من السدر؛ وقال أبو حيان: إن الفراء فسر هذا السدر بالسمر، قال: وقال الأزهري: السدر سدران: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول، وله ثمرة عفصة لا تؤكل، وهذا الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقة الغسول يشبه العناب. وقد سبق الوعد في البقرة ببيان مطلب ما يفيده دخول الجار مع مادة "بدل" فإن الحال يفترق فيها بين الإبدال والتبديل والاستبدال والتبدل وغير ذلك، وهي كثرة الدور مشتبهة الأمر، وقد حققها شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بالديار المصرية شمس الدين محمد بن علي القاياتيرحمه الله فقال فيما علقته عند وذكر أكثره في شرحه لخطبة المنهاج للنوويرحمه الله : اعلم أن هذه المادة - أعني الباء والدال واللام - مع هذا الترتيب قد يذكر معها المتقابلان فقط وقد يذكر معهما غيرهما, وقد لا يكون كذلك, فإن اقتصر عليهما فقد يذكران مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء كما في قوله تعالى:
{ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [البقرة: 61] وفي قوله تعالى: { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } [البقرة: 108] الآية، فتكون الباء داخلة على المتروك ويتعدى الفعل بنفسه للمقابل المتخذ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال وأحدهما مقرون بالباء، فالباء داخلة على الحاصل، ويتعدى الفعل بنفسه إلى المتروك، نقل الأزهري عن ثعلب: بدلت الخاتم بالحلقة - إذا أذبته وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم - إذا أذبتها وجعلتها خاتماً، وأبدلت الخاتم بالحلقة - إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه، وحكى الهروي في الغريبين عن ابن عرفة يعني نفطويه أنه قال: التبديل: تغيير الشيء عن حاله, والإبدال: جعل الشيء مكان آخر, وتحقيقه أن معنى التبديل التغيير وإن لم يؤت ببدل كما ذكر في الصحاح وكما هو مقتضى كلام ابن عرفة، فحيث ذكر المتقابلان وقيل: "بدلت هذا بذاك" رجع حاصل ذلك أنك أخذت ذاك وأعطيت هذا، فإذا قيل: بدل الشيء بغيره، فمعناه غير الشيء بغيره، أي ترك الأول وأخذ الثاني، فكانت الباء داخلة على المأخوذ لا المنحى، ومعنى إبدال الشيء بغيره يرجع إلى تنحية الشيء وجعل غيره مكانه، فكانت الباء داخلة على المتخذ مكان المنحى، وللتبديل ولو مع الاقتصار على المتقابلين استعمال آخر، يتعدى إلى المفعولين بنفسه كقوله تعالى { { فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات } [الفرقان: 70] { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة } } [الكهف: 81] الآية بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيراً وقد لا يذكر المذهوب كما في قوله تعالى: { { بدلناهم جلوداً غيرها } [النساء: 56] ومعنى التبدل والاستبدال أخذ الشيء مكان غيره، فإذا قلت: استبدلت هذا بذاك، أو تبدلت هذا بذاك، رجع حاصل ذلك أنك أخذت هذا وتركت ذاك، وإن لم يقتصر عليهما بل ذكر معهما غيرهما وأحدهما مصحوب بالجارّ وذكر التبديل كما في قوله تعالى { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } تعدى الفعل بنفسه إلى المفعولين يعين إلى المفعول ذلك لأجله وإلى المأخوذ بنفسه، وإلى المذهوب المبدل منه بالباء كما في "بدله بخوفه أمناً" ومعناه: أزال خوفه إلى الأمن, وقد يتعدى إلى المذهوب والحالة هذه - بمن كما في "بدله من خوفه أمناً" وللتبديل أيضاً استعمال آخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل: بدلت الشيء أي غيرته، قال تعالى { فمن بدله بعد ما سمعه } [البقرة: 181] على أن ههنا ما يجب التنبه له وهو أن الشيء يكون مأخوذاً بالقياس والإضافة إلى شيء، متروكاً بالقياس والإضافة إلى آخر، كما إذا أعطى شخص شخصاً شيئاً وأخذ بدله منه، فالشيء الأول مأخوذ للشخص الثاني ومتروك للأول، والمقابل بالعكس فيصح أن يعبر بالتبدل والتبديل، ويعتبر في كل منهما ما يناسبه، والإشكال المقام قصدنا بعض الإطناب - انتهى والله أعلم.