التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٣
لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
٥
وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٦
-سبأ

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ثبتت حكمته بما نشاهد من محكم الأفعال وصائب الأقوال، فثبت بذلك علمه لأن الحكمة لا تكون إلا بالعلم، وكان الرب الرحيم العليم لا تكمل ربوبيته إلا بالملك الظاهر والأيالة القاهرة التي لا شوب فيها، ثبت البعث الذي هو محط الحكمة وموضع ظهور العدل، فكانت نتيجة ذلك: فالله يأتي بالساعة لما ثبت من برهانها كما ترون، فعطف عليه قوله: { وقال الذين كفروا } أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة: { لا تأتينا الساعة } والإخبار عنها باطل.
ولما تقدم من الأدلة ما لا يرتاب معه، أمره أن يجيبهم برد كلامهم مؤكداً بالقسم على أنه لم يخله من دليل ظاهر فقال: { قل بلى وربي } أي المحسن إليّ بما عمني به معكم من النعم، وبما خصني به من تنبئتي وإرسالي إليكم - إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو سبحانه، فهو أكرم من أن يدعكم من غير أن يحشركم لينتقم لي منكم، ويقر عيني بما يجازيكم به من أذاكم لي ولمن اتبعني، فإنه لا يكون سيد قط يرضى أن يبغي بعض عصاة عبيده على بعض، ويدعهم سدى من غير تأديب، فكيف إذا كان المبغي عليه مطيعاً له، والباغي عاصياً عليه، هذا ما لا يرضاه عاقل فكيف بحاكم فكيف بأحكام الحاكمين؟ { لتأتينكم } أي الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفضل، وغير ذلك من عجائب الحكم والفصل.
ولما كان الحاكم لا يهمل رعيته إلا إذا غابوا من علمه، ولا يهمل شيئاً من أحوالهم إلا إذا غاب عنه ذلك الشيء، وكانت الساعة من عالم الغيب، وكان ما تقدم من إثبات العلم ربما خصه متعنت بعالم الشهادة، وصف ذاته الأقدس سبحانه بما بين أنه لا فرق عنده بين الغيب الذي الساعة منه والشهادة، بل الكل عنده شهادة، وللعناية بهذا المعنى يقدم الغيب إذا جمعا في الذكر، فقال مبيناً عظمة المقسم به ليفيد حقية المقسم عليه لأن القسم بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة كان في الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، واصفاً له على قراءة الجماعة ومستأنفاً، - وهو أبلغ - على قراءة المدنيين وابن عامر ورويس عن يعقوب بالرفع: { عالم الغيب } وقراءة حمزة والكسائي "علام" بصيغة المبالغة كما هو أليق بالموضع.
ولما كنا القصور علمنا متقيدين بما في هذا الكون مع أن الكلام فيه، قال مصرحاً بالمقصود على أتم وجه: { لا يعزب } - أي يغيب ويبعد عزوباً قوياً - على قراءة الجماعة بالضم، ولا ضعيفاً - على قراءة الكسائي بالكسر { عنه مثقال ذرة } أي من ذات ولا معنى، والذرة نملة حمراء صغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه. ولما كان في هذه السورة السباق للحمد، وهو الكمال وجهة العلو به أوفق ولأمر الساعة ومبدأه منها بدأ بها.
ولما كان قد بين علمه بأمور السماء، وكان المراد بها الجنس، جمع هنا تصريحاً بذلك المراد فقال: { في السماوات } وأكد النفي بتكرير "لا" فقال: { ولا في الأرض } ولما كنا مقيدين بالكتاب، ابتدأ الخبر بما يبهر العقل من أن كل شيء مسطور من قبل كونه ثم يكون على وفق ما سطر، فإذا كشف للملائكة عن ذلك ازدادوا إيماناً وتسبيحاً وتحميداً وتقديساً، فقال - عند حميع القراء عاطفاً على الجملة من أصلها لا على المثقال لأن الاستثناء يمنعه: { ولا أصغر } أي ولا يكون شيء أصغر { من ذلك } أي المثقال { ولا أكبر } أي من المثقال فما فوقه { إلا في كتاب } وإخبارنا به لما جرت به عوائدنا من تقييد العلم بالكتاب، وأما هو سبحانه فغني عن ذلك.
ولما كان الإنسان قد يكتب الشيء ثم يغيب عنه وينسى مكانه فيعجز في استخراجه أخبر أن كتابه على خلاف ذلك، بل هو حيث لا يكشف من يريد اطلاعه عليه شيئاً إلا وجده في الحال فقال: { مبين * } ويجوز - ولعله أحسن - إذا تأملت هذه مع آية يونس أن يعطف على مثقال، ويكون الاستثناء منقطعاً، ولكن على بابها في كونها بين متنافيين، فإن المعنى أنه لا يغيب ولا يبعد عنه شيء من ذلك لكنه محفوظ أتم حفظ في كتاب لا يراد منه كشف عن شي إلا كان له في غاية الإبانة، ولعله عبر بأداة المتصل إشارة إلى أنه إن كان هناك عزوب فهو على هذه الصفة التي هي في غاية البعد عن العزوب، ثم بين علة ذلك كله دليلاً على صدق القسم بما ختمت به الأحزاب من حكمة عرض الأمانة مما لا يمتري ذو عقل ولو قل في صحته، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يفعل غيره فقال: { ليجزي الذين آمنوا } أي فإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان، فلا يجوز ان يدعه بغير جزاء: { وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات }.
ولما التفت السامع إلى معرفة جزائهم، أوردة تعظيماً لشأنه، جواباً للسؤال مشيراً إليه بما دل على علو رتبته بعلو رتبة أهله: { أولئك } أي العالو الرتبة { لهم مغفرة } أي لزلاتهم أو هفواتهم لأن الإنسان المبني على النقصان لا يقدر العظيم السلطان حق قدره { ورزق كريم * } أي جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي، لا كدر فيه بوجه.
ولما كانت أدلة الساعة قد اتضحت حتى لم يبق مانع من التصديق بها إلا العناد، وكان السياق لتهديد من جحدها، قال معبراً بالماضي: { والذين سعوا } أي فعلوا فعل الساعي { في آياتنا } أي على ما لها من العظمة { معجزين } أي مبالغين في قصد تعجيزها بتخلفها عما نزيده من إنفاذها، وهكذا معنى قراءة المفاعلة، ولما كان ذنبهم عظيماً، أشار بابتداء آخر فقال: { أولئك } أي البعداء البغضاء الحقيرون عن أن يبلغوا مراداً بمعاجزتهم { لهم عذاب } وأيّ عذاب { من رجز } أي شيء كله اضطراب، فهو موجب لعظيم النكد والانزعاج، فهو أسوأ العذاب { أليم * } أي بليغ الألم - جره الجماعة نعتاً لرجز، ورفعه ابن كثير وحفص عن عاصم نعتاً لعذاب. ولما ذم الكفرة، وعجب منهم في إنكارهم الساعة في قوله: { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } وأقام الدليل على إتيانها، وبين أنه لا يجوز في الحكمة غيره ليحصل العدل والفضل في جزاء أهل الشر وأولي الفضل، عطف على ذلك مدح المؤمنين فقال واصفاً لهم بالعلم، إعلاماً بأن الذي أورث الكفرة التكذيب الجهل: { ويرى الذين } معبراً بالرؤية والمضارع إشارة إلى أنهم في عملهم غير شاكين، بل هم كالشاهدين لكل ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وبالمضارع إلى تجدد عملهم مترقين في رتبه على الدوام مقابلة لجلافة أولئك في ثباتهم على الباطل الذي أشار إليه الماضي، وأشار إلى أن علمهم لدني بقوله: { أوتوا العلم } أي قذفه الله في قلوبهم فصاروا مشاهدين لمضامينه لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقيناً سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو من أهل الكتاب { الذي أنزل إليك } أي كله من أمر الساعة وغيره { من ربك } أي المحسن إليك بإنزاله، وأتي بضمير الفصل تفخيماً للأمر وتنصيصاً على أن ما بعده مفعول "أوتوا" الثاني فقال: { هو الحق } أي لا غيره من الكلام { ويهدي } أي يجدد على مدى الزمان هداية من اتبعه { إلى صراط } أي طريق واضح واسع.
ولما كانت هذه السورة مكية، وكان الكفار فيها مستظهرين والمؤمنون قليلين خائفين، والعرب يذمونهم بمخالفة قومهم ودين آبائهم ونحو ذلك من الخرافات التي حاصلها الاستدلال على الحق المزعوم بالرجال قال: { العزيز الحميد * } أي الذي من سلك طريقه - وهو الإسلام - عز وحمده ربه فحمده كل شيء وأن تمالأ عليه الخلق أجمعون، فإنه سبحانه لا بد أن يتجلى للفصل بين العباد، بالإشقاء والإسعاد على قدر الاستعداد.