التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٤٣
وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ
٤٤
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
٤٥
-سبأ

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر أنهم أبوا الإيمان بالقرآن، المخبر بالغيب من أمر الرحمن الذي هدت إليه العقول، وشاهدت آثاره العيون، في هذا الكلام المعجز، فتظافرت على ما أخبرت به أدلة السمع والبصر والعقل، وختم بأنهم آمنوا بالجن غيباً وعبدوهم من دون الله بما لم يدع إليه عقل ولا نفل، وصدقوهم من الإخبار بما إن صدقوا في شيء منه خلطوا معه أكثر من مائة كذبة، وسلب أعظم من ادعوا أنهم استندوا إليه النفع والضر، وأسند تعذيبهم إلى تكذيبهم، أتبعه الإخبار بأنهم لازموا الإصرار على ذلك الكفر والتكذيب بما كله صدق وحكم فقال: { وإذا تتلى } أي في وقت من الأوقات من أيّ تال كان { عليهم } أي خاصة لم يشركهم غيرهم ليقولوا: إنه المقصود بالتلاوة، فلا يلزمهم الاستماع { آياتنا } حال كونها { بينات } ما قالت شيئاً إلا ظهرت حقيته { قالوا } أي على الفور من غير تأمل لما حملهم على ذلك من حظ النفس.
ولما كان المستكبرون يرون ما للرسالة من الظهور، وللرسول من القبول، وأن أتباعهم قد ظهر لهم ذلك، فمالوا إليه بكلياتهم، أكده قولهم: { ما هذا } أي التالي لها على ما فيه من السمت المعلم بأنه أصدق الخلق وأعلاهم همة وأبينهم نصيحة { إلا رجل } أي مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم، وتزيدون عليه أنتم بالكثرة، ولم يسندوا الفعل إليهم نفياً للغرض عن أنفسهم وإلهاباً للمخاطبين فقالوا: { يريد أن يصدكم } أي بهذا الذي يتلوه { عما كان } دائماً { يعبد آباؤكم } أي لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً، وألهبوا السامعين بتصوير آبائهم بذكر "كان" والفعل المضارع ملازمين للعبادة ليثبتوا على كفرهم بما لا دليل عليه ولا شبهة ولا داع سوى التقليد.
ولما كانت أدلة الكتاب واضحة، خافوا عاقبتها في قبول الاتباع لها، فجزموا بأنها كذب ليوقفوهم بذلك، فحكى ذلك عنهم سبحانه بقوله: { وقالوا ما هذا } أي القرآن { إلا إفك } أي كذب مصروف عن وجهه { مفترى } أي متعمد ما فيه من الصرف.
ولما كان فيه ما لا يشك أحد في حقيته، لبسوا عليهم بأنه خيال يوشك أن ينكشف إيقافاً لهم إلى وقت ما، فقال تعالى إخباراً عنهم: { وقال } ولما كان الحق قد يخفى، ولم يقيده بالبيان كما فعل في الآيات، أظهر موضع الإضمار بياناً للوصف الحامل لهم على ذلك القول وهو التدليس، فقال: { الذين كفروا } أي ستروا ما دلت عليه العقول من حقية القرآن، { للحق } أي الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقية فيه { لما جاءهم } أي من غير أن يمهلوا النظر ولا تدبر ليقال إن الداعي لهم إلى ما قالوا نوه شبهة عرضت لهم، بل أظهروا بالمسارعة إلى الطعن أنه مما لا يتوقف فيه، وأكدوا لما تقدم من خوفهم على أتباعهم ليخيلوهم فقالوا: { إن } أي ما { هذا } أي الثابت الذي لا يكون شيء أثبت منه { إلا سحر } أي خيال لا حقيقة له { مبين * } أي ظاهر العوار جداً، فهو ينادي على نفسه بذلك، فلا تغتروا بما فيه مما تميل النفوس ويؤثر في القلوب، ولقد انصدّ لعمري بهذا التلبيس - مع أن في نسبتهم له إلى السحر الاعتراف بالعجز - بشر كثير برهة حتى هدى الله بعضهم، وتمادى بالآخرين الأمر حتى ماتوا على ضلالهم، مع أنه كان ينبغي لكل من رأى مبادرتهم وتحرقهم أن يعرف أنهم متغرضون، لم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية، والعلق الشهوانية، قال الطفيل ابن عمرو الدوسي ذو النور رضي الله عنه: لقد اكثروا عليّ في أمره حتى حشوت في أذنيّ الكرسف خوفاً من أن يخلص إلى شيء من كلامه فيفتنني، ثم أراد الله بي الخير فقلت: واثكل أمي إني والله لبيب عاقل شاعر، ولي معرفة بتمييز غث الكلام من سمينه، فما لي لا أسمع منه، فإن كان حقاً تبعته، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة - أو كما قال، قال: فقصدت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض عليّ ما جئت به، فلما عرضه عليّ بأبي هو وأمي ما سمعت قولاً قط أحسن منه, ولا أمراً أعدل منه, فما توقفت في أن أسلمت، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له أن يعطيه آية تعينه على قومه، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته، فخشي أن يظنوا أنها مثلة، فدعا بتحويله، فتحول في طرف سوطه، فأعانه الله على قومه فأسلموا.
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع، بين ذلك معجباً من شأنهم، موضحاً لعنادهم، بقوله مؤكداً إشارة إلى أن ما يجترئون عليه من الأقوال التي لا سند لها إلا التقليد لا يكون إلا عن كتاب أو رسول: { وما } أي قالوا ذلك والحال أنا ما { آتيناهم } أي هؤلاء العرب أصلاً لأنه لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب، وعبر بمظهر العظمة إشارة إلى أن هذا مقام خطر وموطن وعر جداً لأنه أصل الدين، فلا يقنع فيه إلا بأمر عظيم، وأكد هذا المعنى بقوله: { من كتب } بصيغة الجمع مع تأكيد النفي بالجار قبل كتابك الجامع { يدرسونها } أي يجددون دراستها في كل حين، فهي متظاهرة الدلالة باجتماعها على معنى واحد متواترة عندهم لا شبهة في أمرها ليكون ذلك سبباً للطعن في القرآن إذا خالف تلك الكتب { وما أرسلنا } أي إرسالاً لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة { إليهم } أي خاصة، بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم باعيانهم، فهم مقصودون بالذات، لا أنهم داخلون في عموم، أو مصقودون من باب الأمر بالمعروف في جميع الزمان الذي { قبلك } أي من قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ليخرج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما كانا في بعض الزمان الماضي، أو أن المراد في الفترة بعد عيسى عليه السلام كما تقدم في السجدة نقله عن ابن عباس ومقاتل، ويجوز أن يراد بعد إسماعيل عليه السلام لأن عيسى عليه السلام - وإن أرسل إلى العرب رسله - لم يكن مرسلاً إلا إلى قومه، وإرساله إلى غيرهم إنما هو من باب الأمر بالمعروف، وشعيب عليه السلام إنما كانت رسالته إلى طائفة أو أثنتين منهم وقد يقال: الذي يدل عليه استغراق جميع الزمان الماضي بالتجريد عن الخافض أن المراد إنما هو نفي الإرسال بهذا الباطل الذي إدعوه لا مطلق الإرسال، وأكد النفي بقوله: { من نذير * } أي ليكون عندهم قول منه يغبر في وجه القرآن، فيكون حاملاً لهم على الطعن.
ولما نفى موجب الطعن، ذكر المانع الموجب للإذعان فقال: { وكذب } أي فعلوا ما فعلوا، الحال أنه قد كذب { الذين من قبلهم } أي من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر { وما بلغوا } أي هؤلاء { معشار ما آتيناهم } أي عشراً صغيراً مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل { فكذبوا } أي بسبب ما طبعوا عليه من العناد، وأفرد الضمير كما هو حقه ونصاً على أن النون فيما مضى للعظمة لا للجمع دفعاً لتعنت متعنت فقال: { رسلي }.
ولما كان اجتراؤهم على الرسل سبب إهلاكهم على أوجه عجيبة، صارت مثلاً مضروباً باقياً إلى يوم القيامة ولم يغن عنهم في دفع النقم ما بسط لهم من النعم، كان موضع أن يقال لرائيه أو لسامعه: { فكيف كان نكير * } أي فيما كان له من الشدة التي هي كالجبلة أي إنكاري على المكذبين لرسلي، ليكون السؤال تنبيهاً لهذا المسؤول وداعياً له إلى الإذعان خوفاً من أن يحل به ما حل بهم أن فعل مثل ما فعلهم سواء كان الإنكار في أدنى الوجوه كما أوقعناه سبباً من تعطيل الأسباب، أو أعلاها كما أنزلنا بقوم نوح عليه السلام ومن شاكلهم وصب العذاب والاستئصال الوحيّ بالمصاب على ما أشارت إليه قراءتا حذف الياء وإثباتها.