التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
-فاطر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسه الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال: { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً } [مريم: 81] قال مستنتجاً من ذلك: { من كان } أي في وقت من الأوقات { يريد العزة } أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب { فلله } أي وحده { العزة جميعاً } أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها, ومن طلب الشيء من غير صاحب خاب؛ قال ابن الجوزي: وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أراد عزة الدارين فليطع العزيز" .
ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال: { إليه } أي لا إلى غيره { يصعد الكلم الطيب } أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً علناً لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه.
ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق: { والعمل الصالح يرفعه } هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم العمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل - انتهى، وقد قيل:

لا ترض من رجل حلاوة قوله حتى يصدق ما يقول فعال
فـإذا وزنـت مقالـــه بفعـالــــهفتوازنــا فإخـاء ذاك جمـال

ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال: { والذين يمكرون } أي يعملون على وجه الستر المكرات { السيئات } أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة { لهم عذاب شديد } كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة. ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال: { ومكر أولئك } أي البعداء من الفلاح { هو } أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى: { { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: 30] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر { يبور * } أي يكسد ويفسد ويهلك، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك: حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيىء, وحذف وضعه المكر السيىء ودل عليه برفعه للعمل الصالح.
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق، أتبعه ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبيناً لبعض آيات الأنفس عاطفاً على ما عطف عليه { والله الذي أرسل الرياح } الذي هو من آيات الآفاق، منبهاً على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر: { والله } أي الذي له جميع صفات الكمال؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال: { خلقكم من تراب } أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً، وإليه الإشارة بقوله: { ثم } أي بعد ذلك من الزمان والرتبة خلقكم { من نطفة } أي جعلها أصلاً ثانياً مثلياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ثم بعد إنهاء التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار { ثم جعلكم أزواجاً } بين ذكور وإناث، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل الطبائع، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة.
ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته: { وما تحمل } أي في البطن بالحبل { من أنثى } دالاً بالجار على كمال الاستغراق. ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال: { ولا تضع } أي حملاً { إلا } مصحوباً { بعلمه } في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه، فلا يكون إلا بقدرته، فما شاء أتمه، وما شاء أخرجه.
ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد: { وما يعمر من معمر } أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً، قال قتادة: ستين، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه { ولا ينقص من عمره } أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره، فالمعمر المذكور المراد به الفعل، والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر. ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال: { إلا في كتاب } مكتوب فيه "عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله".
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد، ولا يحصره الحد، فكان في عداد ما ينكره الجهلة، قال مؤكداً لسهولته: { إن ذلك } أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل { على الله } أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده، خاصة { يسير * }
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال: { وما يستوي البحران } ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو: { هذا عذب } أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع { فرات } أي بالغ العذوبة { سائغ شرابه } أي هنيء مريء بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع { وهذا ملح أجاج } أي جمع إلى الملوحة المرارة، فلا يسوغ شرابه، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار، والمراد أمه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر، بل إذا حفر عل جانب البحر الملح ظهر الماء عذباً فراتاً على مقدار صلاح الأرض وفسادها.
ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال: { ومن كل } أي من الملح والعذب { تأكلون } من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك { لحماً طرياً } أي شهي المطعم، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم. ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال: { وتستخرجون } أي تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج، قال البغوي: وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك. { حلية تلبسونها } أي نساؤكم من الجواهر: الدر والمرجان وغيرهما، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: { وترى الفلك } أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: { فيه } أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: { مواخر } أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد: تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس: مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً: جرت أو استقبلت الريح في جريتها، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة، وفي الحديث: إذ أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، وفي لفظ: استمخروا الريح، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظهره فأخذت عن يمينه ويساره، وقد يكون استقبالها تمخراً غير أنه في الحديث استدبار - انتهى كلام القاموس. ثم علق بالمخر معللاً قوله: { لتبتغوا } أي تطلبوا طلباً شديداً. ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال: { من فضله } أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا { ولعلكم تشكرون * } أي ولتكون حالكم بهذه النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره.