التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٣
-فاطر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذاً اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم الظهور، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام، كما يكون بالإعطاء والإنعام، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك: { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً { لله } أي وحده.
ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك، قال دالاً على استحقاقه للمحامد: { فاطر } أي مبتدئ ومبتدع { السماوات والأرض } أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفرداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار: { جاعل الملائكة رسلاً } أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين { أولي أجنحة } أي تهيؤهم لما يراد منهم؛ ثم وصف الأجنحة فقال: (مثنى) أي جناحين جناحين لكل واحد لمن لا يحتاج فيما صرف فيه إلى أكثر من ذلك، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين. ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال: { وثلاث } أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم. ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه، نبه بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال: { ورباع } أي أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم.
ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل، كانت نتيجة ذلك: { يزيد في الخلق } أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخارة والبخل وعلو الهمة وسفولها - وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه، فبطل قول من قال: أنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل, ولم يدع بشيء منها لبساً: { ما يشاء } فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث: { إن الله } أي الجامع لجميع أوصاف الكمال { على كل شيء قدير * } فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض، ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق، إذ الكل خلقه وملكه، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة
{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } [سبأ: 22] تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند، وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول أو تحيط به الأفهام, فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى } الآية، وقوله { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم } وقوله: { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } الآية، وقوله: { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } الآية { والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل } { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها } { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا } فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام، وقوله سبحانه { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرة } الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجرّ في السورتين مما ظاهره الخروج من هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي - رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه - انتهى.
ولما وصف سبحانه نفسه المقدس بالقدرة الكاملة، دل على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، فقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً: { ما } أي مهما { يفتح الله } أي الذي لا يكافئه شيء. ولما كان كل شيء من الوجود لأجل الناس قال: { للناس } ولما كان الإنعام مقصوداً بالذات محبوباً، وكانت رحمته سبحانه قد غلبت غضبه، صرح به فقال مبيناً للشرط في موضع الحال من ضميره أي يفتحه كائناً: { من رحمة } أي من الأرزاق الحسية والمعنوية من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر دقت أو جلت فيرسلها { فلا ممسك لها } أي الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد في نفسه أنه إذا حصل له خير لا يعدم من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله، ولا يقدر على تأثير ما فيه.
ولما كان حبس النعمة مكروهاً لم يصرح به، وترك الشرط على عمومه بعد أن فسر الشرط الأول بالرحمة دلالة على مزيد الاعتناء بها إيذاناً بأن رحمته سبقت غضبه فقال: { وما يمسك } أي من رحمة أو نعمة بإغلاق باب الخلق عنه { فلا مرسل له } أي الذي أمسكه بمثل البرهان الماضي في الرحمة.
ولما كان ربما ادعى فجوراً حال إمساك الرحمة أو النقمة أنه هو الممسك قال: { من بعده } أي بعد إمساكه، فمن كان في يده شيء فليمسك ما أتى به الله حال إيجاده بأن يعدمه. ولما كان هذا ظاهراً في العزة في أمر الناس والحكمة في تدبيرهم عمم فقال: { وهو } أي هو فاعل ذلك والحال أنه وحده { العزيز } أي القادر على الإمساك والإرسال الغالب لكل شيء ولا غالب له { الحكيم * } الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراد على قوانين الحكمة، فلا يستطاع نفض شيء منه.
ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده. أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يقود إلى الشكر، وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود، فقال: { يا أيها الناس } أي الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة { اذكروا } بالقلب واللسان { نعمت الله } أي الذي لا منعم في الحقيقة سواه، ولما كانت نعمة عامة غامرة من كل جانب قال: { عليكم } أي في دفع ما دفع من المحن، وصنع ما صنع من المنن، على ما تقدم في الفتح والإمساك لتشكروه ولا تكفروه، والذي يخص أهل مكة بعد ما شاركوا به الناس - إسكانهم الحرم، وحفظهم من جميع الأمم، وتشريفهم بالبيت، وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس.
ولما أمر بذكر نعمته، أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته، فقال منبهاً لمن غفل، وموبخاً لمن جحد، وراداً على أهل القدر الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم، ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول: { هل } ولما كان الاستفهام بمعنى النفي أكده بـ { من } فقال: { من خالق } أي للنعم وغيرها، ولما كانت { من } للتأكيد، فكان { خالق } في موضع رفع، قرأ الجمهور قوله: { غير الله } بالرفع، وجره حمزة والكسائي على اللفظ، وعبر بالجلالة إشارة إلى أنه المختص بصفات الكمال.
ولما كان الجواب قطعاً: لا، بل هو الخالق وحده، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول: { يرزقكم } أي وحده. ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال: { من السماء والأرض } بالمطر والنبات وغيرهما. ولما بين أنه الرزاق وحده انقطع أمل كل أحد من غيره حتى من نفسه فحصل الإخلاص فتعين أنه سبحانه الإله وحده فقال: { لا إله إلا هو } فتسبب الإنكار على من عبد غيره ظاهراً أو باطناً فقال: { فأنى } أي فمن أيّ وجه وكيف { تؤفكون * } أي تصرفون وتقلبون عن وجه السداد في التوحيد بهذه الوجوه الظاهرة إلى الشرك الذي لا وجه له.