ولما كان التقدير: فقالوا: إنا لا ندعي أنهم خلقوا شيئاً من السماوات ولا من
الأرض ونحن مقرون بأنه لا يمسك السماوات والأرض إلا الله، وإنما نعبدهم لقربونا
إلى الله زلفى، كما كان يفعل آباؤنا، ولولا أنه لهم على ذلك دليلاً ما فعلوه، عطف
عليه قوله مبيناً ضلالهم في تكذيبهم الرسل بعد ما ظهر من ضلالهم في إشراكهم
بالمرسل وهو يمهلهم ويرزقهم دليلاً على حلمه مع علمه: { وأقسموا } أي كفار مكة
{ بالله } أي الذي لا عظيم غيره { جهد أيمانهم } أي بغاية ما يقدرون عليه من الأيمان،
قال البغوي: لما بلغهم - يعني كفار مكة - أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله
اليهود والنصارى! أتتهم رسلهم فكذبوهم، لو أتانا رسول لنكونن أهدى ديناً منهم.
ولما أخبر عن قسمهم، حكى معنى ما أقسموا عليه دون لفظه بقوله: { لئن
جاءهم } وعبر بالسبب الأعظم للرسالة فقال: { نذير } أي من عند الله { ليكونن } أي
الكفار { أهدى } أي أعظم في الهدى { من إحدى } أي واحدة من { الأمم } أي السالفة
أو من الأمة التي لم تكن في الأمم التي جاءتها النذر أهدى منها، قال أبو حيان: كما
قالوا هو أحد الأحدين، وهي إحدى الأحد، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل. لأنهم
أحد أذهاناً وأقوم لساناً وأعظم عقولاً، وألزم لما يدعو إليه العقل، وأطلب لما يشهد
بالفضل، وأكدوا بالقسم لأن الناظر لتكذيب أهل العلم بالكتاب يكذبهم في دعوى
التصديق قياساً أخروياً، ودل على إسراعهم في الكذب بالفاء فقال: { فلما جاءهم
نذير } أي على ما شرطوا وزيادة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم مع
كونه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم في كل خلق أماً وأباً، وأمتنهم في كل مأثرة
سبباً { ما زادهم } أي مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال { إلا نفوراً * } أي لأنه كان
سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة, فأعرقت في الضلال فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها
فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس، ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم
أصدق الخلق. ولما كانوا قد جبلوا على الضلال، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو
مباح، علله بقوله: { استكباراً } أي طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم { في الأرض } أي التي
من شأنها السفول والتواضع والخمول { ومكر السيىء } أي ولأجل مكرهم المكر الذي
من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره، وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله،
وقراءة عبد الله { ومكراً سيئاً } يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته، وقراءة حمزة
بإسكان الهمزة بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم { ولا } أي
والحال أنه لا { يحيق } أي يحيط إحاطة لازمة ضارة { المكر السيىء } أي الذي هو
عريق في السوء { إلا بأهله } وإن آذى غير أهله، لكنه لا يحيط بذلك الغير، وعن
الزهري أنه قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول هذه
الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله { إنما بغيكم على أنفسكم } ولا تنكثوا ولا
تعينوا ناكثاً قال الله: { ومن نكث فإنما ينكث على نفسه }" .
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها، قال مسبباً عن ذلك: { فهل ينظرون }
أي ينتظرون، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر، ويمكن أن
يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة،
لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر
لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم. ولما جعل استقبالهم
لذلك انتظاراً منهم له، وكان الاستفهام إنكاريا، فكان بمعنى النفي قال: { إلا سنت
الأولين } أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس، عدل عن
ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره،
فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم
بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم: { فلن تجد } أي أصلاً في
وقت من الأوقات { لسنت الله } أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها، وهي
إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين { تبديلاً } أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون
بدلاً لها لأنه لا مكافئ له { ولن تجد لسنت الله } أي الذي لا أمر لأحد معه
{ تحويلاً * } أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه، لأنه لا كفوء له، وفي
الآية أن أكثر حديث النفس الكذب، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي
على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته.