التفاسير

< >
عرض

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
٥
إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
٦
-فاطر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قررهم على ما تقدم وختم بالتوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الدين، نبه على أنه المقصود بالذات بذكر ما يعقبه في الأصل الثاني، وهو الرسالة من تصديق وتكذيب، فقال ناعياً على قريش سوء تلقيهم لآياته، وطعنهم في بيناته، مسلياً له صلى الله عليه وسلم، عاطفاً على ما تقديره: فإن يصدقوك فهم جديرون بالتصديق لما قام على ذلك من الدلائل، وشهد به من المقاصد والوسائل: { وإن يكذبوك } أي عناداً وقلة اكتراث بالعواقب فتأسّ بإخوانك { فقد } أي بسبب أنه قد { كذبت رسل } أي يا لهم من رسل! وبني الفعل للمجهول لأن التسلية محطها، وقوع التكذيب لا تعيين المكذب، ونفى أن يرسل غيره بعد وجوده بقوله: { من قبلك } وأفرد التكذيب بالذكر اهتاماً بالتسلية تنبيهاً على أن الأكثر يكذب، قال القشيري: وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتقشفين.
ولما كان التقدير نفياً للتعجب من التكذيب الجاري على غير قياس صحيح: فمن الله الذي لا أمر لأحد معه تصدر الأمور، عطف عليه قوله مهدداً لمن خالف أمره: { وإلى الله } أي وحده له الأمور كلها { ترجع الأمور * } أي حساً ومعنى، فاصبر ورد الأمر إلينا بترك الأسباب إلا ما نأمرك به كما فعل إخوانك من الرسل.
ولما أشعر هذا الختام باليوم الموعود، وهو الأصل الثابت قال مهدداً به محذراً منه: { يا أيها الناس } أي الذين عندهم أهليه للتحرك إلى النظر. ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله: { إن وعد الله } أي الذي له صفات الكمال وهو منزه عن كل شائبة نقص، فهو لا يجوز عليه في مجاري العادات للغنى المطلق أن يخلف الميعاد { حق } أي بكل ما وعد به من البعث وغيره وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب، ويعرض عن الأحساب والأنساب، ليحكم بينكم بالعدل، ثم سبب عن كونه حقاً قوله على وجه التأكيد لأجل الإنكار أيضاً: { فلا تغرنكم } أي بأنواع الخدع من اللهو والزينة غروراً مستمر التجدد { الحياة الدنيا } فإنه لا يليق بذي همه عليه اتباع الدنيء، والرضى بالدون الزائل عن العالي الدائم { ولا يغرنكم بالله } أي الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعالي { الغرور * } أي الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو، ولذلك استأنف قوله مظهراً في موضع الإضمار للتنفير بمدلول الوصف قبل التذكير بالعداوة ووخامة العاقبة فيما يدعو إليه مؤكداً لأن أفعال المشايعين له بما يمنيهم به من نحو: إن ربكم حليم، لا يتعاظمه ذنب، مع الإصرار على المعصية أفعال المتعقدين لمصادقته: { إن الشيطان } أي المحترق بالغضب البعيد من الخير { لكم } أي خاصة فهو في غاية الفراغ لأذاكم، فاجتهدوا في الهرب منه { عدو } بتصويب مكايده كلها إليكم وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم وأيضاً "من عادى أباك فقد عاداك".
ولما كانت عداوته تحتاج إلى مجاهدة لأنه يأتي الإنسان من قبل الشهوات، عبر بصيغة الافتعال فقال: { فاتخذوه } اي بغاية جهدكم { عدواً } والله لكم ولي فاتخذوه ولياً بأن تتحروا ما يغيظ الشيطان بأن تخالفوه في كل ما يريده ويأمر به، وتتعمدوا ما يرضاه الرحمن ونهجه لكم وأمركم به فتلتزموه، قال القشيري: ولا يقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب فإنه لا يغفل عن عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة. ثم علل ذلك بقوله: { إنما يدعو حزبه } أي الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله { ليكونوا } باتباعه كوناً راسخاً { من أصحاب السعير * } هذا غرضه لا غرض له سواه، ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسوف لهم بها بالفسحة في الأمل، والإبعاد في الأجل، للإفساد في العمل، والرحمن سبحانه إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم
{ والله يدعو إلى دار السلام } [يونس: 25].