التفاسير

< >
عرض

يسۤ
١
وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ
٢
إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣
عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤
تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ
٥
لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
٦
-يس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان القلب من الإنسان المقصود بالذات من الأكوان في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه، وكانت الياء في نحو ذلك من حروف "أبجد" فإنها العاشرة منها والسين بذلك المحل من حروف أ ب ت ث فإنها الثانية عشرة منها، وعلا هذان الحرفان - بما فيهما من الجهر - عن غاية الضعف ونزلا بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة، إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف الجامع بين الصلابة والرقة الذي علا بصلابته عن رقة الماء الذي لا يثبت فيه صورة، ونزل بلطافته عن قساوة الحجر الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد، فكان جامعاً بين الصلابة والرقة متهيئاً لأن تنطبع فيه الصور وتثبت ليكون قابلاً مفيداً، فيكون متخلفاً من صفات موجدة بالقدرة والاختيار اللذين دلت عليهما سورة الملائكة، وبمعرفة الخير فيجتلبه والشر فيجتنبه فيكون فيه شاهد من نفسه على الاعتقاد الحق في صانعه، وكانت المجهورة أقوى فقدمت الياء لجهرها، وكانتا - بعد اختلاف بالجهر والهمس - قد اتفقتا في الانفتاح والرخاوة والاستفال إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة التي هي في معنى الجهر إلا بالإخبات الذي هو في معنى الهمس، وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حد الرخاوة لئلا يكون حجرياً قاسياً, بأن يكون فيه انفتاح ليكون مفيداً وقابلاً, ويكون مستفلاً ليكون إلى ربه بتواضعه واصلاً, وزادت السين بالصفير الذي فيه شدة وانتشار وقوة لضعفها عن الياء بالهمس فتعادلتا، ودل صفيرها على النفخ في الصور الذي صرحت به هذه السورة, ودل جهر الياء على قوته, ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في الشده حتى تبدو عنه تلك الآثار المخلية للديار، المنفية للصغار والكبار، ثم الباغتة لهم من جميع الأقطار، امتثالاً لأمر الواحد القهار، وكان مخرجهما من اللسان الذي هو قلب المخارج الثلاثة لتوسطه وكثرة منافعه في ذلك، وكانت الياء من وسطه والسين من طرفه، وكان هذان المخرجان، مع كونهما وسطاً، مداراً لأكثر الحروف، هذا مع ما لهما من الأسرار التي تدق عن تصور الأفكار، قال تعالى: { يس * } وإن كان المعنى: يا إنسان، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها وخالصها وسرها ولبابها، وإن أريد: يا سيد، فهو خلاصة من سادهم، وإن أريد: يا رجل، فهو خلاصة البشر، وإن أريد: يا محمد، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب البشر الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات فهو خلاصة الخلاصة وخيار وعين القلب، وكأن من قال معناه محمد نظر إلى الإتحاد في عدد اسمه صلى الله عليه وسلم بالجمل بالنظر إلى اليمين في المشددة وعدد { قلب } وعدد اسمي الحرفين، ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية، فمبلغ عدده اثنا عشر.
ولما تقدم في الملائكة إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد قومه على النفرة عنه، وأن مرسله تعالى بصير بعباده، عالم بما يصلحهم ومن يصلح منهم للرسالة وغيرها، وكان مدار مادة "قرأ" - كما مضى في سورة الحجر - الجمع مع الفرق، وكان ذلك أعلى مقامات السائرين إلى الله وهو وظيفة القلب، عبر في القسم بقوله: { والقرآن } ووصفه بصفة القلب العازف فقال: { الحكيم * } أي الجامع من الدلالة على العلم المزين بالعمل والإرشاد إلى العمل المحكم بالعلم.
ولما كان قد ثبت في سورة الملائكة أنه سبحانه الملك الأعلى، لما ثبت له من تمام القدرة وشمول العلم، وكان من أجلّ ثمرات الملك إرسال الرسل إلى الرعايا بأوامر الملك وردهم عما هم عليه مما دعتهم إليه النفوس، وقادتهم إليه الشهوات والحظوظ، إلى ما يفتحه لهم من الكرم، ويبصرهم به من الحكم، وكانت الرسالة أحد الأصول الثلاثة التي تنقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، وكانت هي المنظور إليها أولاً لأنها السبب في الأصلين الآخرين، وكانوا قد ردوا رسالته نفوراً واستكباراً، قال مقدماً لها تقديم السببعلى مسببه على وجه التأكيد البليغ مع ضمير الخطاب الذي لا يحتمل لبساً: { إنك لمن المرسلين * } أي الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم، فصاروا - بما وهبهم الله القوة النورانية - كالملائكة الذين قدم في السورة الماضية أنهم رسله وفي عدادهم بما تخلقوا به من أوامره ونواهيه وجميع ما يرتضيه.
ولما كان الأنبياء عليهم السلام من نوره صلى الله عليه وسلم، لأنه أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً، فكانوا في الحقيقة إنما هم ممهدون لشرعه، وكان سبحانه إنما أرسله ليتمم مكارم الأخلاق، وكان قد جعل سبحانه من المكارم أن لا يكلم الناس إلا بما تسع عقولهم، وكانت عدة المرسلين كما في حديث أبي أمامة الباهلي عن أبي ذر رضي الله عنهما عند أحمد في المسند ثلاثمائة وخمسة عشر، وفيه أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وهو في الطبراني الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر عدد الرسل فقط، وكانت عقول العرب لا تسع بوجه قبل الإيمان أنهم منه، أقسم سبحانه ظاهراً أنه منهم ورمزاً للأصفياء باطناً إلى أنهم منه، بجعلهم عدد أسماء حروف اسمه محمد صلى الله عليه وسلم الذي رمز إليه بالحرفين أول السورة، فكأنه قال: إنك يا ياسين الذي تأويله محمد الذي عدد أسماء حروفه بعددهم لأصلهم، فصار رمزاً في رمز، وكنزاً نفيساً داخل كنز، وسراً من سر، وبراً إلى بر، وهو أحلى في منادمة الأحباب من صريح الخطاب، ثم علق باسم المفعول قوله: { على صراط } أي طريق واسع واضح { مستقيم * } أي أنت من هؤلاء الذين قد ثبت لهم أنهم عليه، وهو الصراط المستقيم الأكمل المتقدم في الفاتحة لأنه لخواص المنعم عليهم ولقوله تعالى في حق موسى وهارون عليه السلام { وهديناهما الصراط المستقيم } فيكون تنوينه - بما أرشد إليه القسم والتأكيد - للتعظيم، والمعنى أنهم قد ثبت لهم هذا الوصف العظيم وأنت منهم بما شاركتهم فيه من الأدلة، فليس لأحد أن يخصك من بينهم بالتكذيب.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ وسورة فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك وانفراده بذلك بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاء، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدركها، واستولت عليها الغفلة فكانت قد جمدت عن معهود حراكها، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات، واصطفاه لإيضاح تلك البينات، فقال تعالى { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } ثم قال { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهو غافلون } فأشار سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار، ويبعثه التيقظ بالتذكار؛ ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه وإن كان مسبباً عن الطبع وشر السابقة { لقد حق القول على أكثرهم } الآيات؛ ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عند تحريكه لسابق سعادته فقال تعالى: { إنا نحن نحيي الموتى } فكذلك نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم { أو من كان ميتاً فأحييناه } ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل المكذبين مع بيان الأمر فقال { واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } - الآيات، واتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل الواضحة والبراهين فقال { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون } الآية، ثم قال { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } إلى قوله: { أفلا تشكرون } ثم قال { وآية لهم الّيل نسلخ منه النهار } { وكل في فلك يسبحون } ثم قال { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } إلى قوله: { إلى حين } ثم ذكر إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثتهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة اعضائهم بأعمالهم، ثم تناسجت الآية جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: ما هذا الذي أرسل به؟ كان كأنه قيل جوباً لمن سأل: هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو { تنزيل } أو حاله كونه تنزيل { العزيز } أي المتصف بجميع صفات الكمال. ولما كانت هذه الصفة للقهر والغلبة، وكان ذلك لا يكون صفة كمال إلا بالرحمة قال: { الرحيم * } أي الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم بما يقيمهم على المنهاج الذي يرضاه لهم، فهو الواحد الذي لا مثل له أصلاً لما قهر به من عزته، وجبر به من رحمته. نزل إليك وهو في جلالة النظم وجزالة القول وحلاوة السبك وقوة التركيب ورصانة الوضع وحكيم المعاني وإحكام المباني في أعلى ذرى الإعجاز، وجعل إنزاله تدريجاً بحسب المصالح مطابقاً مطابقة أعجزت الخلائق عن أن يأتوا بمثلها، ثم نظمه على غير ترتيب النزول نظماً أعجز الخلق عن أن يدركوا جميع المراد من بحور معانيه وحكيم مبانيه، فكله إعجاز على ما له من إطناب وإيجاز.
ولما ذكر المرسَل والمرسَل به والمرسِل؛ ذكر المرسَل له فقال: { لتنذر قوماً } أي ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة { ما أنذر } أي لم ينذر أصلاً { آباؤهم } أي الذين غيروا دين أعظم آبائهم إبراهيم عليه السلام ومن أتى بعدهم عند فترة الرسل. ولما كان عدم الإنذار موجباً لاستيلاء الحظوظ والشهوات على العقل فيحصل عن ذلك الغفلة عن طريق النجاة قال: { فهم } أي بسبب زمان الفترة { غافلون * } أي المعنى على ان "ما" مفعول ثان لتنذر: أي لتنذرهم الذي أنذره آباؤهم الذين كانوا قبل التغيير، فإن هؤلاء غافلون عن ذلك لطول الزمان وحدوث النسيان.