التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ
١٠٢
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
١٠٣
وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ
١٠٤
قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٠٥
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ
١٠٦
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
١٠٧
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف، كان التقدير: فولد له غلام كما قلنا { فلما بلغ } أن يسعى كائناً { معه } أي مع أبيه خاصة ومصاحباً له { السعي } الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بأن يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم: ثلاث عشرة سنة، وبعضهم: سبع سنين، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه، وهو لم يبلغ كمال السعي { قال } أي إبراهيم عليه السلام: { يا بني } منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام: { إني أرى في المنام } أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي { أني أذبحك } أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال، ولو عبر بالماضي لمضى وتم، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال.
ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم، أحب أن يرى ما عنده، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده، ولتكون المشاورة سنة، فإنه "ما ندم من استشار" سبب عن ذلك قوله: { فانظر } بعين بصيرتك { ماذا } أي ما الذي { ترى } أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له { قال } تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم: { يا أبت } تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوفير { افعل ما تؤمر } أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك، ولا أتهم الله في قضائه، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند
{ ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } [البقرة: 6].
ولما علم طاعته، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره، فاستأنف قوله: { ستجدني } أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد. ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: { إن شاء الله } أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله: { من الصابرين } أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، وهو من أعظم ما أريد بقوله
{ وكان صادق الوعد } [مريم: 54].

ولو بيد الحبيب سقيت سماً لكان السم من يده يطيب

وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نوماً ويقظة، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى.
ولما وثق منه، بادر إلى ما أمر به، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال: { فلما أسلما } أي ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك { وتلّه } أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعاً جيداً سريعاً مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع "على" فقال: { للجبين * } أي أحد شقي الجبهة، وهي هيئة إضجاع ما يذبح، وهذا من قولهم: تله - إذا صرعه، وبه سمي التل من التراب، وتلك فلاناً في يدك أي دفعته سلماً، والجبين - قال في الصحاح: فوق الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.
ولما كان من الواضح أن التقدير جواباً لما عالج ذبحه بعزم أمضى من السنان، وجنان في ثباته أيما جنان، فمنعناه من التأثير بقدرتنا، ورددنا شفرته الماضية عن عنقه اللينة بأيدينا وقوتنا، عطف عليه قوله: { وناديناه } وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال: { أن يا إبراهيم* } ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال: { قد صدقت } أي تصديقاً عظيماً { الرؤيا } في أنك تذبحه، فإنك قد عالجت ذلك، وبدلت الوسع فيه، وفعلت ما رأيته في المنام، فما انذبح لأنك لم تر أنك ذبحته، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا. ولما كان التقدير: فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب، وجعلناك إماماً للمتقين، ووهبناك لسان صدق في الآخرين، وجعلنا آلك هم المصطفين، وملأنا منهم الخافقين، علله بأن ذلك سنته دائماً قديماً وحديثاً فقال ما يأتي.
ولما كان صلى الله عليه وسلم في همة الذبح وعزمه، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك، لا تسكن عن ثورانها، ولا تبرد عن غليانها وفورانها، إلا بأمر شديد، وقول جازم أكيد، قال مؤكداً تنبيهاً على أن همته قد وصلت إلى هذا حده، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي: { إنا كذلك } أي مثل هذا الجزاء العظيم { نجزي المحسنين * }.
ولما كان جزاءه عظيماً جداً، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجباً ومعظماً مؤكداً تنبيهاً على أنه خارق للعادة: { إن هذا } أي الأمر والطاعة فيه { لهو البلاءُ } أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائناً ما كان { المبين * } أي الظاهر في بابه جداً المظهر لرائيه انه بلاء.
ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه، ومن البشارة بالجزاء، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام، وهو يعالج إتلافه، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً لأن الفادي من أعطى الفداء، وهو ما يدفع لفكاك الأسير، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال: { وفديناه } أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له { بذبح } أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح، وهو كبش من الجنة، قيل: إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه { عظيم * } أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر.