التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٢٣
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ
١٢٤
أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ ٱلْخَالِقِينَ
١٢٥
ٱللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
١٢٦
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
١٢٧
إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
١٢٨
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
١٢٩
سَلاَمٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ
١٣٠
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان إلياس أعظم المتجردين من أتباعهما المجددين لما درس من أحكام التوراة، وكان ترك أحكامها مع ما وصفت به من البيان وما دعت إليه من الاستقامة في غاية من الضلال تكاد أن لا يصدق مثلها, أشار إلى الزيغ عنه بياناً لأن القلوب بيده سبحانه فقال مؤكداً: { وإن إلياس } أي الذي كان أحد بني إسرائيل عند جميع المفسرين إلا ابن مسعود وعكرمة، وهو من سبط لاوي، ومن أولاد هارون عليه السلام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو عم اليسع عليهم السلام، وأرسلناه إلى من كان منهم في أرض بعلبك ونواحيها، فلما لم يرجعوا إليه نزعنا عنه الشهوات الإنسانية وخلقناه بالأوصاف الملكية، ولا يبعد أن يكون الداعي إلى تسميته بهذا الاسم ما سبق في علم الله أنه ييأس ممن يدعوهم إلى الله فيكون ممن يأتي يوم القيامة وما معه إلا الواحد أو الاثنان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الشيخان: البخاري في الرقاق والطب، ومسلم في الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما: " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه رهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد" ، فجعل سبحانه اسمه مناسباً لأمره في قومه بيأسه منهم حين فر إلى الجبال من شرهم، ويأسهم من القدرة على قتله، فإنهم اجتهدوا في ذلك حتى أعياهم، وأدل دليل على هذا المعنى قراءة ابن عامر بخلاف عنه بوصل الهمزة في الدرج وفتحها في الابتداء، وإن قال العلماء كما حكاه السمين في إعرابه: إن ذلك من تلاعب العرب بالأسماء العجمية، قطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى، يعني فخاطبهم سبحانه بما ألفوه من لسانهم { لمن المرسلين } أي إلى من بدل أمر التوارة ونابذ ما دعت إليه { إذ قال لقومه } منكراً عليهم ما من حقه الإنكار بقوله: { ألا تتقون * } أي يوجد منكم تقوى وخوف، فإن ما أنتم عليه يقتضي شراً طويلاً، وعذاباً وبيلاً، وما أنتم عليه من السكون والدعة يقتضي أنه لا خوف عندكم أصلاً، وذلك غاية الجهل والاغترار بمن تعلمون أنه لا خالق لكم ولا رازق غيره.
ولما كان هذا الإنكار سبباً للإصغاء، كرره مفصحاً بسببه فقال: { أتدعون بعلاً } أي إلهاً ورباً، وهم صنم كان لهم في مدينة بعلبك كان من ذهب طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه، فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها، وهم أربعمائة ويعلمونها الناس، ويحتمل أن يكون علماً على الصنم المذكور فيكون المفعول الثاني منوياً، وحذف ليفهم الدعاء الذي لا دعاة يشبهه وهو الدعاء بالإلهية، ومن قرأ شاذاً "بعلاء" بوزن "حمراء" فهو إشارة إلى كثرة حث امرأة الملك على عبادة بعل وقتل إلياس عليه السلام، وطاعة زوجها لها في ذلك - كما حكاه البغوي، فاستحق التأنيث لذلك، فأنث لكثرة ملابستها له، والجنسية علة الصنم.
ولما كان دعاؤهم إياه للعبادة بينه بقوله: { وتذرون } ومادة "وذر" تدور على ما يكره، فالمعنى: وتتركون ترك المهمل الذي من شأنه أن يزهد فيه، ولو قيل: وتدعون - تهافتاً على الجناس لم يفد هذا وانقلب المراد. ولما كان الداعي لا يدعو إلا بكشف ضر أو إلباس نفع، فكان لا يجوز أن يدعو إلا من يقدر على إعدام ما يشاء وإيجاد ما يريد، قال منبهاً لهم على غلطهم في الفعل والترك: { أحسن الخالقين * } أي وهو من لا يحتاج في الإيجاد والإعدام إلى أسباب فلا تعبدونه.
ولما كان الإنسان يعلم يقيناً أنه لم يرب نفسه إلا بالإنشاء من العدم ولا بما بعده، وكان الإحسان أعظم عاطف للإنسان، قال مبيناً لمن أراد مذكراً لهم بإحسانه إليهم وإلى من يحامون عنهم، ويوادون من كان يوادهم بالتربية بعد الإنشاء من العدم الذي هو أعظم تربية مفخماً للأمر ومعظماً بالإبدال في قراءة الجماعة بالرفع: { الله } فذكر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات تنبيهاً على أنه الأول المطلق الذي لم يكن شيء إلا به { ربكم } أي المحسن إليكم وحده. ولما كانوا ربما أسندوا إيجادهم إلى من قبلهم غباوة منهم أو عناداً قال: { ورب آبائكم الأولين * } أي الذين هم أول لكم، فشمل ذلك آباءهم الأقربين، ومن قبلهم إلى آدم عليه السلام.
ولما كان من أعظم المقاصد - كما مضى - التسلية والترجية، سبب عن دعائه قوله: { فكذبوه } ولما كانت الترجية مستبعدة، سبب عن التكذيب قوله مؤكداً لأجل تكذيبهم: { فإنهم لمحضرون * } أي مقهورون على إقحامنا إياهم فيما نريد من العذاب الأدنى والأكبر، وذكرهم بالسوء واللعن على مر الآباد وإن كرهوا { إلا عباد الله } أي الذين علموا ما لهم من مجامع العظمة فعملوا بما علموا فلم يدعوا غيره فإنهم لم يكذبوا؛ ثم وصفهم بما أشار إليه من الوصف بالعبودية والإضافة إلى الاسم الأعظم فقال: { المخلصين * } أي لعبادته فلم يشركوا به شيئاً جلياً ولا خفياً، فإنهم ناجون من العذاب.
ولما جاهد في الله تعالى وقام بما يجب عليه من حسن الثناء، جازاه سبحانه فقال: عاطفاً على "فإنهم لمحضرون" { وتركنا عليه } أي من الثناء الجميل وجميع ما يسره: { في الآخرين * } أي كل من كان بعده إلى يوم الدين. ولما كان السلام اسماً جامعاً لكل خير لأنه إظهار الشرف والإقبال على المسلم عليه بكل ما يريد، أنتج ذلك قوله: { سلام } ولما كان في اسمه على حسب تخفيف العرب له لغات إحداهما توافق الفواصل، فكان لا فرق في تأدية المعنى بين الإتيان بما اتفق منها، وكان ما كثرت حروفه منها أضخم وأجل وأفخم، وكان السياق بعد كثير من مناقبه لنهاية المدحة، كان الأحسن التعبير بما هو أكثر حروفاً وهو موافق للفواصل ليفيد ذلك تمكينه في الفضائل ولتحقق أنه اسم أعجمي لا عربي مشتق من الياس وإن أوهمت ذلك قراءة ابن عامر بوصل همزته فقال: { على آل ياسين * } ومن قرأ آل يس فيجوز أن يكون المراد في قراءته ما أريد من القراءة الأخرى لأن أهل اللغة قالوا: أن الآل هو الشخص نفسه، ويس إما لغة في إلياس أو اختصرت اللغة الثانية التي هي إلياسين فحذف منها الهمزة المكسورة مع اللام، ويجوز أن يكون المراد بآله أتباعه، ويكون ذلك أضخم في حقه لما تقدم مما يدعو إليه السياق، ويجوز أن يقصد بهذه القراءة جميع الأنبياء المذكورين في هذه السورة الذين هو أحدهم، أي على الأنبياء المذكورين عقب سورة يس دلالة على ما دعت إليه معانيها من الوحدانية والرسالة والبعث وإذلال العاصي وإعزاز الطائع المجرد لنفسه في حب مولاه عن جميع العوائق، القاطع للطيران إليه أقوى العلائق، وخص بهذا هذه القصة لأنها ختام القصص المسلم فيها على أهلها.