التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ
١٤٣
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤٤
فَنَبَذْنَاهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ
١٤٥
وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ
١٤٦
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
١٤٧
فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
١٤٨
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما وقع ما وقع فتجرد عن نفسه وغيرها تجرداً لم يكن لأحد مثل مجموعه لا جرم، زاد في التجرد بالفناء في مقام الوحدانية فلازم التنزيه حتى أنجاه الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: { فلولا أنه كان } أي خلقاً وخلقاً { من المسبحين * } أي العريقين في هذا المقام، وهو ما يصح إطلاق التسبيح في اللغة عليه من التنزيه بالقلب واللسان والأركان بالصلاة وغيرها لأن خلقه مطابق لما هيىء له من خلقه، فهو لازم لذلك في وقت الرخاء والدعة والخفض والسعة، فكيف به في حال الشدة، وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على الصلاة { للبث في بطنه } أي حيّاً أو بأن يكون غذاء له فتختلط أجزاؤه باجزائه { إلى يوم يبعثون * } أي هو والحوت وغيرهما من الخلائق، وعبر بالجمع لإفادة عموم البعث، ولو أفرد لم يفد بعث الحيوانات العجم، ولو ثنى لظن أن ذلك له وللحوت خاصة لمعنى يخصها فلا يفيد بعث غيرهما، وقيل: للبث حيّاً في بطنه، وفي الآية إشارة إلى حديث "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" وحث على الذكر وتعظيم لشأنه.
ولما كان التقدير: ولكنه لما كان ذكاراً لله في حال الرخاء ذكرناه في حال الشدة، فأنجيناه من بطنه، وأخرجناه منه سالماً، وكان ذلك أمراً باهراً للعقل، أبرزه في مظهر العظمة فقال: { فنبذناه } أي ألقيناه من بطن الحوت إلقاء لم يكن لأحد غيره. وكان ذلك علينا يسيراً { بالعراء } أي المكان القفر الواسع الخالي عن ساتر عن نبت أو غيره، وذلك بساحل الموصل، وقال أبو حيان: قذفه في نصيبين من ناحية الموصل: { وهو سقيم * } أي عليل جداً مما ناله من جوف الحوت بحيث أنه كان كالطفل ساعة يولد وهو إذ ذاك محمود غير مذموم بنعمة الله التي تدراكته، فكان مجتبى ومن الصالحين { وأنبتنا } أي بعظمتنا في ذلك المكان لا مقتضى للنبات مطلقاً فيه فضلاً عما لا ينبت إلا بالماء الكثير.
ولما كان سقمه متناهياً بالغاً إلى حد يجل عن الوصف، نبه عليه بأداة الاستعلاء فقال: { عليه } أي ورفعناها حال إنباتنا إياها فوقه لتظله كما يظل البيت الإنسان. ولما كان الدباء عن النجم، وكان قد أعظمها سبحانه لأجله، عبر عنها بما له ساق فقال: { شجرة } ولما كانت هذه العبارة مفهمة لأنها مما له ساق، نص على خرق العادة بقوله: { من يقطين * } أي من الأشجار التي تلزم الأرض وتقطن فيها وتصلح لأن يأوي إليها ويقطن عندها حتى يصلح حاله، فإنه تعالى عظمها وأخرجها عن عادة أمثالها حتى صارت عليه كالعريش، واليقطين: كل ما يمتد وينبسط على وجه الأرض ولا يبقى على الشتاء ولا يقوم على ساق كالبطيخ والقثاء، والمراد به هنا - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما شجرة القرع لعظم ورقها وبرد ظلها ونعومة ملمسها وأن الذباب لا يقربها، قال أبو حيان: وماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أصلاً، وقال غيره: فيه ملاءمة لجسد الإنسان حتى لو ذهبت عظمة من رأسه فوضع مكانها قطعة من جلد القرع نبت عليها اللحم وسد مسده، وهو من قطن بالمكان - إذا أقام به إقامة زائل لا ثابت.
ولما كان النظر إلى الترجية أعظم، ختم بها إشارة إلى أنه لا يميته صلى الله عليه وسلم حتى يقر عينه بأمته كثرة طواعية ونعمة فقال: { وأرسلناه } أي بعظمتنا التي لا يقوم لها شيء. ولما لم يتعلق الغرض بتعيين المرسل إليهم، وهل هم الذين أبق عنهم أولاً؟ قال: { إلى مائة ألف } والجمهور على أنهم الذين أرسل إليهم أولاً - قال أبو حيان. ولما كان العدد الكثير لا يمكن ناظره الوقوع فيه على حقيقة عدده، بل يصير - وإن أثبت الناس نظراً - يقول: هم كذا يزيدون قليلاً أو ينقصونه، وتارة يجزم بأنهم لا ينقصون عن كذا، وأما الزيادة فممكنة، وتارة يغلب على ظنه الزيادة، وهو المراد هنا، قال: { أو يزيدون * } لأن الترجية في كثرة الأتباع أقر للعين وأسر للقلب، وإفهاماً لأن الزيادة واقعة، وهؤلاء المرسل إليهم هم أهل نينوى وهم من غير قومه، فإن حدود أرض بني إسرائيل الفرات، ونينوى من شرقي الفرات بعيدة عنه جداً.
ولما تسبب عن إتيانه إليهم انشراح صدره بعد ما كان حصل له من الضيق الذي أوجب له ما تقدم قال: { فآمنوا } أي تجريداً لأنفسهم من الحظوظ النفسانية ولحوقاً بالصفات الملكية. ولما كان إيمانهم سبب رفع العذاب الذي كان أوجبه لهم كفرهم قال: { فمتعناهم } أي ونحن على ما نحن عليه من العظمة لم ينقص ذلك من عظمتنا شيئاً ولا زاد فيها { إلى حين * } أي إلى انقضاء آجالهم التي ضربناها لهم في الأزل.
ذكر قصة يونس عليه السلام من سفر الأنبياء قال مترجمه: نبدأ بمعونة الله وقوته بكتب نبوة يونان بن متى النبي: كانت كلمة الرب على يونان بن متى، يقول له: قم فانطلق إلى نينوى المدينة العظيمة وناد فيها بأن شرارتكم قد صعدت قدامي، وقام يونان ليفر إلى ترسيس من قدام الرب، وهبط إلى يافا ووجد سفينة تريد تدخل إلى ترسيس فأعطى الملاح أجرة ونزلها ليدخل معهم إلى ترسيس هارباً من قدام الرب، والرب طرح ريحاً عظيمة في البحر، فكان في البحر موج عظيم، والسفينة كانت تتمايل لتنكسر وفرق الملاحون وجأر كل إنسان إلى إلهه، وطرحوا متاع السفينة في البحر ليخففوا عنهم، بحق هبط يونان إلى أسفل السفينة ونام فدنا منه سيد الملاحين وقال له: لماذا أنت نائم؟ قم فادع إلهك لعل الله يخلصنا ولا نهلك، وقال الرجل لصاحبه: تعالوا نقترع ونعلم هذا الشر من قبل من جاء علينا؟ فاقترعوا فجاءت القرعة على يونان، فقالوا له: أخبرنا ما هذا الشر؟ وماذا هو عملك، ومن أين أنت، ومن أيّ شعب أنت، وأيتها أرضك؟ فقال لهم يونان: أنا عبراني ولله رب السماء أخشى الذي خلق البر والبحر، ففرق أولئك القوم فرقاً شديداً، فقالوا له: ماذا صنعت؟ لأن أولئك الناس علموا أنه من قدام إلهه هرب، فلما أخبرهم قالوا: ما نصنع بك حتى يسكن عنا البحر لأن البحر هو ذا منطلق يزخر علينا؟ قال لهم يونان: خذوني فاطرحوني في البحر فيسكن عنكم البحر لأني أعلم أن هذا الموج العظيم من أجلي هاج عليكم، فجهد أولئك الناس أن يرجعوا إلى الساحل، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لأن البحر كان ذاهباً يزخر عليهم، ودعوا إلى الرب وقالوا: أيها الرب لا يحسب علينا دم زكي، ولا نهلك بنفس هذا الرجل من أجل أنك أنت الرب، وكل ما شئت تصنع، فأخذوا يونان وطرحوه في البحر، فاستقر البحر من أمواجه، وفرق أولئك الناس من قدام الرب فرقاً شديداً، وذبحوا ذبائح للرب ونذروا له النذور، وهيأ الرب سمكة عظيمة فابتلعت يونان، وكان يونان في أمعاء السمكة ثلاثة أيام وثلاث ليالي وقال: دعوت الرب في حزني فأجابني، ومن بطن الجحيم تضرعت إليه، وسمع صوتي وطرحني في الغوط في قلب البحر، والأنهار أحاطت بي، وكل أمواجك واهياجك عليّ جازت، أنا بحق قلت: إني قد تباعدت من قدام عينيك، من الآن أترى أعود فأنظر إلى هيكلك المقدس، وقد أحاطت بي المياه حتى نفسي والأهوال أحاطت بي، وفي أسفل البحر احتبس رأسي، وإلى أسفل الجبال هبطت، والأرض أطبقت أغلاقها في وجهي إلى الدهر، إذا اغتمت نفسي للرب ذكرت ودخلت صلاتي قدامك إلى هيكلك المقدس، فكل الذين يحفظون الأنساك البطالة رحمتهم فتركوا، أنا بحق بصوت الشكر أقرب لك وأذبح، والذي نذرته أوفيه للرب! فأمر الرب السمكة فقذفت يونان في اليبس، وأتى الكلام الرب إليه المرة الثانية، وقال له: قم يا يونان فانطلق إلى نينوى المدينة العظمية وناد فيها بالنداء الذي أقوله لك، فقام يونان وانطلق إلى نينوى مثل كلمة الرب، ونينوى كانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام، وتبدّأ يونان أن يدخل إلى نينوى مسيرة يوم واحد ونادى وقلال: من الآن وإلى أربعين يوماً نينوى تنقلب، فآمن أهل نينوى لله وفرضوا الصوم ولبسوا المسوح من عظمائهم حتى صغائرهم، وانتهت الكلمة إلى ملك نينوى فقام عن كرسيه ونزع تاجه، واكتسى مسح شعر، وجلس على الرماد، ونادى في نينوى وقال الملك وأشرافه: وكل الناس والغدائر والثيران والغنم فلا يذوقون شيئاً من الطعام ولا يرعون، وماء فلا يشربون، ولكن فليلبس الناس والغدائر ويدعو الله بالتضرع، ويرجع كل إنسان عن طريقة السوء، وعن الاختطاف الذي في يده، وقالوا: من ذا الذي يعلم أن الله يقبل منا ويترحم علينا ويرد عنا غصبه ورجزه لكيلا نهلك، ونظر الله إلى أعمالهم أنهم قد تابوا عن طرقهم السوء فرد عنهم غضب رجزه ولم يبدهم، وحزن يونان حزناً شديداً، وتكره من ذلك جداً، وصلى قدام الرب وقال: أيها الرب! ألم تكن هذه كلمتي، وأنا بعد في بلادي ولذلك سبقت وفررت إلى ترسيس، قد عرفت بحق أنك الرحمن الإله الرؤوف، طويل صبرك وكثيرة نعمتك، وترد السوء الآن يا رب! انزع نفسي مني لأن الموت أنفع لي من الحياة، فقال له: جداً حزنت يا يونان، وخرج يونان من المدينة واتخذ له ثمة مظلة وجلس تحتها في الظل لينظر ما الذي يعرض للمدينة، وأمر الله الرب أصل القرع، ونبت وارتفع على رأس يونان، فكان ظل على رأسه فتفرج من شدته وفرح فرحاً كثيراً يونان بأصل القرع.
وفي اليوم الآخر أمر الله الرب دودة في مطلع الصبح فضربت أصل القرع وقرضته، فلما طلعت الشمس أمر الله ريح السموم فيبست أصل القرع، وحميت الشمس في رأس يونان، واغتم وسال الموت لنفسه وقال: إنك يا رب تقدر تنزع نفسي مني، لأني لم أكن أخبر من إياي، وقال الرب ليونان: جداً حزنت على أصل القرع، فقال يونان: جدّاً أحزن حتى الموت، قال له الرب: أنت أشفقت على أصل القرع الذي لم تعن به ولم تربه، الذي في ليلة نبت، وفي ليلة يبس، فكيف لا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يدرون ما بين يمينهم من شمالهم وكثرة من الغدائر - انتهى. ولعل أصل القرع المذكور هنا كان نبت عليه حين خرج من بطن الحوت، فلما اتفق له ما ذكر هنا رجع إليه وقد زاد عظمه فبنى تحته عريشاً وجلس تحته، فكان منه ما كان، فلا يكون حينئذ ما هنا مخالفاً لما ذكر أهل الأخبار في هذه القصة - والله الموفق.