التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
١٤
وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١٥
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
١٦
أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ
١٧
قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ
١٨
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ
١٩
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر إعراضهم عن المسموع، أتبعه إعراضهم عن المرئي فقال: { وإذا رأوا آية } أي علامة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره { يستسخرون * } أي يطلبون السخرية بها بأن يدعو بعضهم بعضاً لذلك من شدة استهزائهم.
ولما كان إنكارهم للبعث ولو صدر مرة واحدة في الشناعة والعظم والقباحة مثل تجديدهم للسخرية كلما سمعوا آية والمبالغة فيها لأن دلائله من الظهور والوضوح بمكان هو في غاية البعد عن الشكوك، دل على ذلك بالتعبير بالماضي فقال: { وقالوا } أي ما هو غاية في العجب: { إن } أي ما { هذا } أي الذي أتانا به من أمر البعث وغيره مما شاهدناه أو أخبرنا به { إلا سحر } أي خيال وأمور مموهة لا حقائق لها { مبين * } أي ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصوا البعث بالإنكار: { أإذ متنا } وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا: { وكنا } أي كوناً هو في غاية التمكن { تراباً } قدموه لأنه أدل على مرادهم لأنه أبعد عن الحياة { وعظاماً } كأنهم جعلوا كل واحد من الموت والكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة أو المختلطة منهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم أن ابتداء خلقهم كان من التراب مع أن هذا ظاهر جداً "ولكن عقول ضلها باريها" ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به زيادة في الإنكار فقالوا: { أإنا لمبعوثون * }.
ولما كان المعنى: أيثبت بعثنا، عطفوا عليه قولهم مكررين للاستفهام الإنكاري تأكيداً لزيادة استبعادهم حتى أنهم قاطعون بأنه محال فقالوا قولاً واهياً: { أو آباؤنا } أي يثبت بعثنا وكذا آباؤنا, وزادوا في الاستبعاد بقولهم: { الأولون * } اي الذين طال مكثهم في الأرض تحت أطباق الثرى وانمحقت أجزاؤهم بحيث لم يبق لهم أثر ما، ومرت الدهور ولم يبعث أحد منهم يوماً من الأيام، يدلنا بعثه على ما يدعي من ذلك.
ولما بالغوا هذه المبالغات في إنكاره بعد قيام البراهين في هذه السورة وغيرها على جوازه بل وجوبه عادة، أمره بأن يجيبهم بما يقابل ذلك فقال تعالى: { قل نعم } أي تبعثون على كل تقدير قدرتموه، وذكر حالهم بقوله: { وأنتم داخرون * } أي مكرهون عليه صاغرون ذليلون حقيرون. ثم سبب عن الوعد بتحتم كونه ما يدل على أنه غاية في الهوان فقال: { فإنما } أي يكون ذلك بسبب أنكم تزجرون فتقومون، والزجرة التي يقومون بها إنما { هي زجرة } أي صيحة، وأكد ما يفهمه من الوحدة لأجل إنكارهم تصريحاً بذلك وتحقيراً لأمر البعث في جنب قدرته سبحانه وتعالى فقال: { واحدة } وهي الثانية التي كانت الإماتة لجميع الأحياء في آن واحد بمثلها، وأصل الزجر الانتهار ويكون لحث أو منع، وإنما يكون ذلك للمقدور عليه فعل ما يغضب الزاجر، فلذلك سمى الصيحة زجرة.
ولما كان هذا الكلام مؤذناً بالغضب، حققه بصرف الكلام عن خطابهم جعلاً لهم بمحل البعد وتعميماً لغيرهم، فقال معبراً بالفاء المسببة المعقبة وأداة المفأجأة: { فإذا هم } أي جميع الأموات بضمائرهم وظواهرهم القديم منهم والحديث أحياء { ينظرون * } أي في الحال من غير مهلة أصلاً، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً، ومن هو بين ذلك، ولعله خص النظر بالذكر لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا قبض الروح تبعه البصر" . وأما السمع فقد يكون لغير الحي لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الكفار من قتلى بدر: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" . وشاهدت أنا في بلاد العرقوب المجاروة لبانياس من بلاد الشام شجرة شوك يقال لها الغبيراء متى قيل عندها "هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة" أخذ ورقها في الحال في الذبول - فالله أعلم ما سبب ذلك.