التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
٢٠
هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢١
ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ
٢٢
مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ
٢٣
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ
٢٤
مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ
٢٥
بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
٢٦
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ
٢٧
قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ
٢٨
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما حصل الغرض من تصوير حالهم بهذا الفعل المضارع، عطف عليه بصيغة المضي التي معناها الاستقبال إعلاماً بتحقق الأمر تحقق ما مضى وكان، وتحققه مع القيام سواء من غير تخلف ولا تخلل زمان أصلاً فقال: { وقالوا } أي كل من جمعه البعث من الكفرة معلمين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل: { يا ويلنا } اي يا من ليس لنا نديم غيره { هذا يوم الدين * } أي الجزاء لكل عامل.
ولما كان قولهم هذا إنما هو للتحسر على ما فاتهم من التصديق النافع به، زادوا في ذلك بقولهم يخاطب بعضهم بعضاً بدلاً أو وصفاً بعد وصف دالين بإعادة اسم الإشارة على ما داخلهم من الهول: { هذا يوم الفصل } أي الذي يفصل فيه بين الخصوم، ثو زادوا تأسفاً وتغمماً وتلهفاً بقولهم، لافتين القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أدل على ذم بعضهم لبعض وأبعد عن الإنصاف بالاعتراف: { الذي كنتم } أي يا دعاة الويل جبلة وطبعاً { به تكذبون * } وقدموا الجار إشارة إلى عظيم تكذيبهم به، فبينما هم في هذا التأسف إذ برز النداء بما يهدىء قواهم، ويقر قلوبهم وكلاهم، لمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من الملائكة الشداد الغلاظ بإذلالهم وإصغارهم، ولبيان السرعة لذلك من غير تنفيس أسقط ما يدل على النداء من نحو قوله: فقيل الملائكة، أو فقلنا، أو فبرز النداء من جانب سلطاننا - ونحو هذا: { احشروا } أي اجمعوا بكره وصغار وذل أيها الموكلون بالعباد من الأجناد، وأظهر تعريفاً بوصفهم الموجب لحتفهم فقال: { الذين ظلموا } أي بما كانوا فيه في الدنيا بوضع الأشياء في غير محالها من الخبط الذي لا يفعله إلا من هو في أشد الظلام { وأزواجهم } أي أتباعهم الذين استنوا بهم في ذلك الضرب من الظلم وأشباههم فيه من الجن وغيرهم ومن أعانهم ولو بشطر كلمة أو رضى فعلهم لتصير كل طائفة على حدة فيصير بعضهم يبكت بعضاً وبعضهم يشتم بعضاً { وما كانوا } أي بما دعتهم إليه طباعاتهم المعوجة { يعبدون * } أي مواظبين على عبادته رجاء منفعته تحقيقاً لخسارتهم بتحقق اعتمادهم على غير معتمد، وهو يعم المعبود حقيقة أو مجازاً بالتزيين "ومن سبقت له الحسنى" مستثنى بآية الأنبياء، وأشار إلى سفول رتبة معبوداتهم وتسفيه آرائهم بانتحال الأذى بقوله صارفاً الأسلوب من المتكلم ولو بمظهر العظمة إلى أعظم منه: { من دون الله } أي الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال، والمراد الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بتوحيد الله.
ولما كانوا قد سلكوا في الدنيا طريق الشقاء المعنوية استحقوا أن يلزموا في القيامة سلوك طريقه الحسية، فلذلك سبب عن الأمر بحشرهم قوله تهكماً بهم وتحسيراً لهم: { فاهدوهم } أي دلوهم دلالة لا يرتابون معها ليعرفوا - مع ما هم فيه من الإكراه على سلوكها - مآلهم، فيكون ذلك أعظم في نكدهم؛ قال الرازي: وأصل الهداية التقدم، والعرب تسمي السابق هادياً، يقال: أقبلت هوادي الخيل أي أعناقها، والهادية: العصى - لأنها تتقدم ممسكها، ونظر فلان هدى أمره أي جهته. ثم أشار إلى طول وقوفهم وسوء مقامهم بقوله بأداة الانتهاء: { إلى صراط الجحيم * } أي طريق النار الشديدة التوقد الواضح الذي لا لبس عندهم بأنه يشترطهم فيؤديهم إليها، وخص هذا الاسم إعلاماً بشديد توقدها وعظيم تأججها، وبعد قعرها وضخامة غمرتها، بتراكم بعضها فوق بعض وقوة اضطرامها، وعلو شأنها واصطلاحها، وصلابة اضطرابها وتحرقها واشتمالها على داخليها وتضايقها، وفيه تهكم بهم في كونهم على غير ما كانوا عليه في الدنيا من التناصر والتعاضد.
ولما كان المقصود من تعريفهم طريق النار أولاً ازدياد الحسرة، صرح بما أفهمه حرف الغاية من طول الحبس فقال: { وقفوهم } أي احبسوهم واقفين بعد ترويعهم بتلك الهداية التي سببها الضلال، فكانت ثمرتها الشقاوة، وإيقافهم يكون عند الصراط - نقله البغوي عن المفسرين، قال: لأن السؤال عند الصراط. ثم علل ذلك بقوله: { إنهم مسؤولون * } وجمع عليهم الهموم بهذه الكلمة لتذهب أوهامهم كل مذهب، فلا تبقى حسرة إلا حضرتهم، ولا مصيبة إلا علت قلوبهم فقهرتهم، فإن المكلف كله ضعف وعورة، فموقف السؤال عليه أعظم حسرة.
ولما أوقفوا هذا الموقف الذليل، قد شغلهم ما دهمهم من الأسف عن القال والقيل، نودوا من مقام السطوة، وحجاب الجبروت والعزة، زيادة في تأسيفهم و توبيخهم وتعنيفهم لفتاً عن سياق الغيبة إلى الخطاب دلالة على أعظم خيبة: { ما لكم } أي أيّ شيء حصل لكم فشغلكم وألهاكم حال كونكم { لا تناصرون * } أي ينصر بعضكم بعضاً، ويتسابقون في ذلك تسابق المتناظرين فيه أولي الجد والشكيمة والنخوة والحمية ولو بأدنى التناصر - بما يفهمه إسقاط التاء، أو بعد تمكث وإعمال حيلة - بما أشارت إليه قراءة البزي عن ابن كثير بالمد والإدغام: أين قولكم في بدر { نحن جميع منتصر } معبرين بما دل على ثبات المناصرة.
ولما كان قد دهمهم من الأمر ما أوجب إبلاسهم، وأحدّ إدراكهم وإحساسهم، أشار إلى ذلك بإحلالهم في محل الغيبة المؤذنة بالإبعاد بأن قال مضرباً عما تقديره: إنهم لا يتناصرون: { بل هم } وزاد في تعظيم ذلك الوقت والتذكير به فقال: { اليوم مستسلمون * } أي ثابت لهم استسلامهم ثباتاً لا زوال له، قد خذل بعضهم بعضاً موجدين الإسلام أي الانقياد إيجاد من كأنه يطلبه ويعظم فيه رغبته رجاء أن يخفف ذلك عنهم.
ولما أخبر بأنهم سئلوا فلم يجيبوا، كان ربما ظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد نكدهم، فقال عاطفاً على قوله { وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين } إشارة إلى إقبالهم على الخصام، حين تمام القيام، والأخذ في تحريك الأقدام، بالسير على هيئة الاجتماع والازدحام، إلى مواطن النكد والاغتمام، ولم يعطفه بالفاء لأنه ليس مسبباً عن القيام، ولا عن الإيقاف للسؤال، بخلاف ما يأتي عن أهل الجنة: { وأقبل بعضهم } أي الذين ظلموا { على بعض } أي بعد إيقافهم وتوبيخهم، وعبر عن خصامهم تهكماً بهم بقوله: { يتساءلون * } أي سؤال خصومة.
ولما كان كأنه قيل: عما ذا؟ أجيب بقوله: { قالوا } أي الأتباع لرؤسائهم مشيرين بأداة الكون إلى المداومة على إضلالهم مؤكدين لأجل تكذيب الرؤساء لهم: { إنكم كنتم } ولما كانوا يستغوونهم ويغرونهم بما تقبله عقولهم على ما جرت به عوائدهم بحيث يقطعون بذلك قطع من كان يريد الذهاب إلى أمر فتطير بالسانح والبارح، فرأى ما يحب فأقدم عليه وهو قاطع بحصوله، أشاروا إلى ذلك بقوله: { تأتوننا } مجاوزين لنا { عن اليمين * } أي عن القوة والقهر والغلبة والسلطان في حملكم لنا على الضلال، ففعلنا في طاعتكم فعل من خرج لحاجة، فرأى ما أوجب إقدامه عليها، فهذا كان سبب كفرنا، وكان هذا التفاؤل مما نسيت العرب كيفيته لما نسخه الشرع كما وقع في الميسر فاضطرب كلام أهل اللغة في تفسيره، قال صاحب القاموس: البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، وسنح الظبي سنوحاً ضد برح. وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: وسنح الشيء سنوحاً: تيسر، والطائر والظبي: جرى عن يمينك إلى يسارك وهو يتيمن به، وقال في مادة "برح": وبرح الطائر والظبي وغيرهما ضد سنح، وهو ما أراك ميامنه، وأهل الحجاز يتشاءمون به، وغيرهم يتيمنون به ويتشاءمون بالسانح، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم في مادة "برح": والبارح خلاف السانح، وقد برح الظبي - إذا والاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك، والعرب يتطير بالبارح, وفي مادة "سنح": والسانح ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك, والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك, وقيل: السانح ما والاك ميامنه, والبارح ما والاك مياسره, وقيل, السانح ما يجيء عن يمينك فتلي مياسره مياسرك, والعرب تختلف في عيافة ذلك، فمنهم من يتيمن بالسانح ويتشاءم بالبارح، وعلى هذا المثل: من لي بالسانح بعد البارح، قال في القاموس: أي بالمبارك بعد المشؤوم، ومنهم من يتشاءم بالسانح، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في مادة "سنح": والسانح من الطير والظباء وغيرهما هو الذي يأتيك عن يمينك أخذاً على يسارك, فيوليك مياسره, فيمكنك رميه, وأكثر العرب يتيمن به, وقال في مادة "برح": والبارح من الطير والظبي هو خلاف السانح, وهو الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك، وهو مما يتيمن به أهل العالية، ويتشاءمون بالسانح، والسانح هو الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك، وهو مما يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح، والبارح أبين في التشاؤم من السانح، لأن البارح هو الذي يأخذ عن يسارك إلى يمينك فلا يمكنك طعنه، فيتشاءم به لتعذره على الطاعن أو الرامي، ولذلك قال أبو داود: قلت: لما برز أمن فيه كذب العير وإن كان برح، يقول: كذب إذ طمع أن ينجو، وإن كان قد برح وصعب على إمكان طعنه، وتطير ومن تيمن به بسلامته وخلاصة من الطاعن، وتطير من تيمن بالسانح بأنه يأتي من ميامنك إلى مياسرك، فيمكنك من طعنه، ومن تشاءم به تطير بقلة سلامته ووقوعه فيما يكره، ومن الطير الجابه وهو الذي يلقاك مواجهة، ومنه الناطح أيضاً ومنه القعيد، وهو الذي يأتيك من خلفك - انتهى ما وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك فافهم، والظاهر كما تفهمه الآية أن العرب مطبقة على أن ما أتى عن اليمين كان مباركاً سواء كان أتى من قدام مواجهاً لك ومر إلى جهة الخلف فوليتك ميامته، أو أتى من الجانب الأيمن سواء كان ابتداء إتيانه من خلف أو لا فمر من قدامك عرضاً إلى جهة اليسار، فوليتك في الحالتين مياسره، وما أتى من جهة اليسار على ضد ذلك كان مشؤوماً، وكأنهم اختلفوا في التسيمة فأكثرهم سمى الأول سانحاً من السنح بالضم وهو اليمن والبركة، وهو من قولهم: سنح لي رأي: تيسر - لشهرة معنى اليمن عندهم في ذلك، والثاني بارحاً من البرح، وهو الشدة والشر لشهرة هذا المعنى عندهم في مادة برح، وبعهضم عكس فسمى الأول بارحاً من البرحة، وهي الناقة تكون من خيار الإبل لشهرة ذلك عندهم، وسمى الثاني سانحاً من قولهم: سنحه عما أراد: صرفه، وسنح بالرجل وعليه: أخرجه أو أصابه بشر، فمن الاختلاف في التسمية أتى الخلاف، ولذلك عبر سبحانه وتعالى بالمعنى دون الاسم، لأن كلامه سبحانه لا يخص قوماً دون غيرهم، وأما التعليل بإمكان الطعن والرمي فلا معنى له لأن الإنسان ينفتل عن هيئة وقوفه بأدنى حركة فينعكس بالنسبة إليه أمر المياسر والميامن، ويتغير حال الطعن والرمي، هذا إذا سلم أن الطعن والرمي يعسر من جهة المياسر على أنه غير مسلم، ولو كان المعنى دائراً عليه لما اختلف فيه إلا بالنسبة إلى الأعسر وغيره، لا بالنسبة إلى أهل العالية وغيرهم، وأما البيت الذي استدل به فيمكن حمله على أن قائله كان في حاجة له لا بد له منها، فرأى البارح فلم يتطير منه ولج في أمره ذلك تكذيباً له فيما دل عليه عند العرب، وأما الجابه وغيره فأسماء أخر لبعض أنواع كل من السانح والبارح - والله أعلم، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه الزينة: العيافة والقيافة والزجر نوع من الكهانة إلا أنه أخف في الكراهة, وذلك أن الكاهن كان بمنزلة الحاكم, وكان من الكهان من يعبد كما يعبد الصنم، وكانوا سدنة الأصنام، قلت: والكاهن في اللغة من يقضي بالغيب وذلك هو غاية العلم، فهو وصف يدل على التوغل في العلم - انتهى، قال أبو حاتم: وسمعت بعض أهل الأدب قال: الكاهن بالعبرانية العالم، وكانوا يسمون هارون عليه السلام كهناً رباً، معناه عالم الرب، ثم قال: إن الكهانة والسحر كان عند المتقدمين نوعاً من العلم، فكان الساحر والكاهن اسمين محمودين، فلما جاء الله بالإسلام صار هذان الاسمان مذمومين عند المسلمين لما كشف لهم ما في ذلك من الشر، ثم قال: فأما العائف والقائف والزاجر فلم يكن سبيلهم كذلك - يعني كالكاهن في أنه ربما عبد، قال: وإنما كره لأنه كان يخبر بشيء غائب فكره كما كره أمر النجوم توقياً أن يكون مثل الدعوى في علم الغيب، والعائف هو الذي يعيف الطير ويزجرها ويعتبر بأسمائها وأصواتها ومساقطها ومجاريها، فإذا سمع صوت طائر أو جرى من يمينه إلى شماله أو من شماله إلى يمينه قضى في ذلك بخير أو بشر في الأمر الذي يريد أن يفعله، فإذا قضى فيه بشر تجنب ذلك الأمر، يقال: عاف يعيف - إذا فعل ذلك، ومعنى عاف أي امتنع وتجنب، يقال: عافت الإبل الماء - إذا لم تشرب، وكذلك يقال في غير الإبل الزاجر أيضاً: هو مثل العائف، يقال: يزجر أيضاً زجراً، وذلك أنه ينظر إلى الطير فيقضي فيها مثل العائف، فإذا رأى شيئاً كرهه رجع عن أمر يريد أن يشرع فيه أو حاجة يريد قضاءها، والزاجر معناه الناهي، فكأن الطير قد زجره عن ذلك الفعل، أو أن من عاف له زجره عن ذلك، ويكون المعنى الزجر أيضاً أنه إذا رأى منها شيئاً صاح بها وطردها، فكان طرده إياها زجراً لها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"أقروا الطير على مكناتها" ، قلت: إنهم كانوا إذا لم يروا سانحاً ولا بارحاً نفروا الطير لينظروا إلى أيّ جهة تطير - والله أعلم، وقال أبو حاتم: والأصل في هذا انهم كانوا يزجرون الطير ثم كانوا يزجرون الظبي والثعلب، وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه وبغير ذلك، ثم نسبت كلها إلى الطير فقيل: يتطير، أي يستدل بالطير، وروي عن الأصعمي قال: سألت ابن عون: ما الفال؟ فقال: هو أن تكون مريضاً فتسمع: يا سالم، وتكون باغياً فتسمع يا واجد، قال: وكان ابن سيرين يكره الطيرة ويحب الفال، وفي الحديث: " أصدق الطير الفال" : والفال مأخوذ من الفيال، وهي لعبة يتقامرون بها، كانوا يأخذون الدراهم فيخلطونها بالتراب ثم يجمعونه طويلاً ثم يقسمونه بنصفين ويتقارعون عليه، فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحداً، فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب سمي الفال، لأنه يتفاءل بما يحبه، وكان هذا في العرب كثيراً، وأكثره في بني أسد، قال الأصمعي: أخبرني سعد بن نصر أن نفراً من الجن تذاكروا عيافة بني أسد فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف، فقالوا لغليم لهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغليم فبكى فقالوا له: ما لك؟ فقال: كسرت جناحاً، ورفعت جناحاً، وحلفت بالله صراحاً، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً. وكانوا يسمون الذي يجيء عن يمينك فيأخذ إلى شمالك سانحاً، والذي يجيء عن يسارك فيأخذ غلى يمينك بارحاً، والذي يستقبلك ناطحاً وكافحاً، والذي يجيء من خلفك قعيداً، والذي يعرض في كل وجه متيحاً، فمنهم من كان يتشاءم بالبارح ويتيمن بالسانح، ومنهم من كان يتيمن بالبارح ويتشاءم بالسانح، قال زهير:

جرت سنحاً فقلت لهـا أجيـزينـوى مشمـولــة فمتـى اللقــاء

وقال الكميت:

ولا السانحات البارحات عشيةأمر سليم القرن أم مر أعضب

وكانوا يزجرون بعضب القرن وصحته، والأعضب الذي له قرن واحد، وأما القائف فهو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل في ولده، ويروى عن عوسجة ابن معقب القائف: قال: كنا تسرق نخلنا فنعرف آثارهم، فركبوا الحمر فعرفنا بمس أيديهم والعذوق، فكان القائف سمي قائفاً لأنه يقفو الأثر، يقال: قفا الأثر وقاف الأثر أي تبعه، قال الأصمعي عن أبي طرفة الهذلي قال: رأى قائفان أثر بعير وهما منصرفان من عرفة بعد الناس بيوم أو يومين فقال أحدهما: ناقة، وقال الآخر: جمل، فاتبعاه فإذا هما به، فاطافا به فإذا هو خنثى، ويقال للرجل إذا كان فطناً عارفاً بالأمور: هو عائف وقائف، وكان قوم من العرب لا يتطيرون ولا يتهيبون الطيرة ويفتخرون بتركه ويعدون تركه شجاعة وإقداماً، قال بعض شعرائهم:

ولقـد غـدوت وكـنـت لا أغـدو عـلى واق وحـاتــم
فـإذا الأشـائـم كـالأيــا مـن والأيـامـن كالأشائــم

وقال آخر:

ولست بهياب إذا اشتـد رحلـهيقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدمـاً إذا صد عن تلك الهناة الخثارم

الخثارم: المطير، وقيل: العيافة والقيافة، الطرق والخط، وهو أيضاً نوع من الكهانة، وهو أن يخط في الأرض خططاً في الطول، ثم يخط عليها خططاً في العرض، ثم يطرق بالحصى او بالشعير أو بخشبات، ولا يزال يخط ويمحو ويعيد ثم يتكهن عليه، ومن هذا الباب أيضاً علم الكتف وهو أن ينظر في كتف شاة فيحدث بأشياء تكون في العالم مثل الحروب والأمطار والرياح والجدب والخصب وغير ذلك، وهذا يقال له: الكتاف، كأنه أشتق له اسم من الكتف مثل العراف لأن العراف من جنس العيافة، والعيافة والعرافة، سواء، فهذه الأشياء كلها من السحر والكهانة والقيافة والعيافة والخط والطرق والكتف وما أشبهها، قد جاءت فيها الأخبار والروايات، ويطول الخطب بها، وهي كلها مكروهة حرام، فمنها ما جاء فيها التشديد مثل السحر، والكهانة، ومنها ما جاء في القليل منها الرخص والتخفيف مثل القيافة والعيافة والكتف - انتهى. وهو مسلم له في القيافة، وأما غيرها فمنازع فيه، ثم قال: فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء عليهم السلام، فإذا استعملت بعد النسخ وبعد ما جاء فيها النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت حراماً تدعو إلى الكفر والتعطيل وغير ذلك من أنواع الفساد، ثم قال: وما كان من أمر مشركي العرب فقد درس دروساً لا يعرف ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته إذ كان متلاشياً لا أثر له، ولكن لا يستغني الفقهاء والعلماء عن معرفته إذ كان له في القرآن ذكر، وإذ كان واجباً على العلماء تعلم ما في القرآن على حسب طاقتهم، والجهل به نقص عليهم - والله أعلم بالصواب.