التفاسير

< >
عرض

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ
٨٨
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ
٨٩
فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ
٩٠
فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ
٩١
مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ
٩٢
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ
٩٣
فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
٩٤
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ
٩٥
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
٩٦
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أفهم السياق شدة عداوته صلى الله عليه وسلم، وكان الله تعالى قد أجرى عادته بأن جعل في النجوم أدلة على بعض المسائل الظنية لا سيما البحرانات في أنواع الأسقام، وكان أهل تلك البلاد وهم الكسدانيون كما تقدم في الأنعام وكما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وكما دلت عليه كتب الفتوحات - من أشد الناس نظراً في النجوم والاستدلال بها على أحوال هذا العالم في بعض ما كان وبعض ما يكون، وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخلف عن الذهاب معهم إلى المحل الذي يجتمعون فيه للعيد ليكسر الأصنام ويريد إخفاء وقت الكسر عليهم ليتمكن من ذلك، قال تعالى حاكياً عنه مشيراً إلى ذلك بالتسبب عما مضى: { فنظر نظرة } أي واحدة { في النجوم * } حين طلبوا منه أن يخرج معهم إلى عيدهم لئلا ينكروا تخلفه عنهم موهماً لهم أنه استدل بتلك النظرة على مرض باطني يحصل له، لأنهم ربما أنكروا كونه مريضاً إذا أخبرهم بغير النظر في النجوم لأن الصحة ظاهرة عليه { فقال } أي عقب هذه النظرة موهماً أنها سببه.
ولما كان بدنه صحيحاً فكان بصدد أن يتوقف في خبره، أكد فقال: { إني سقيم * } فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد وأراد أنه مريض القلب يسبب آلهتهم، مقسم الفكر في أمرهم لأنه يريد أمراً عظيماً وهو كسرها، ومادة "سقم" بتقاليبها الخمسة: سقم سمق قسم قمس مقس، تدور على القسم، فالسقام كسحاب وجبل وقفل: المرض، أي لأنه يقسم القوة والفكر، وقال ابن القطاع: سقم: طاولة المرض. وقسمه جزأه، والدهر القوم: فرقهم، والقسم - بالكسر: النصيب والقسم أي بالفتح: العطاء، ولا يجمع، والرأي والشك والعيب والماء والقدر والخلق والعادة، ويكسر فيهما، والتفريق ظاهر في ذلك كله، أما العطاء فيفرق المال ويقسمه، والرأي يقسم الفكر, والشك كذلك, والعيب يقسم العرض, والماء في غاية ما يكون من سهولة القسم، والقدر يفصل صاحبه من غيره، وكذا الخلق والعادة، والمقسم كمعظم: المهموم - لتوزع فكره، والجميل - لأنه يقسم القول في وصفه، والقسم محركة: اليمين بالله، وقد أقسم، أي أزال تقسيم الفكر، والقسامة: الحسن - لأنه يوزع فكر الناظر, وجونة العطار - كذلك لطيب ريحها, والقسام - كسحاب: شدة الحر - لأنها تزعج الفكر فتقسمه، أو هو أول وقت الهاجرة أو وقت ذرور الشمس، وهي حينئذ أحسن ما تكون مرآة - فينقسم الفكر فيها لحسنها إذ ذاك وما يطرأ عليها بعده. والقمس: الغوص - لأن الغائص قسم الماء بغوصه، والقمس أيضاً اضطراب الولد في البطن لأنه يقسم الفكر، ويكاد أن يقسم البطن باضطرابه، والقاموس: معظم البحر - لأن البحر قسم الأرض، ومعظمه أحق بهذا الاسم، والقوامس: الدواهي - لتقسيمها الفكر، وانقمس النجم: غرب، أي أخذ قسمه من الغروب كما أخذه من الشروق، أو أزال التقسيم بالسير، ومقسه في الماء: غطه - فانقسم الماء بغمسه فيه، والقربة: ملأها، فصير فيها من الماء ما يسهل قسمه، وأخذه الماء الذي وضعه فيها تقسيم للماء المأخوذ منه، ومقس الشيء: كسره، والماء: جرى - فانقسم وقسم الأرض، وهو يمقس الشعر كيف شاء، أي بقوله فيقسمه من باقي الكلام، والتقميس في الماء: الإكثار من صبه، فإن ذلك تقسيم له، وسمق سموقاً: علا وطال فصار بطوله يقبل من القسمة ما لا يقبله ما هو دونه.
ولما فهموا عنه ظاهر قوله، وظنوا فيه ما يظهر من حاله، ولكنهم لم يسعهم لعظمته فيهم إلا التسليم، تركوه فقال تعالى مسبباً عن قوله مشيراً إلى استبعادهم مرضه بصيغة التفعل: { فتولوا } أي عالجوا أنفسهم وكلفوها أن انصرفوا { عنه } إلى محل اجتماعهم وإقامة عيدهم وأكد المعنى ونص عليه بقوله: { مدبرين * } أي إلى معبدهم فخلا له الوقت من رقيب { فراغ } أي ذهب في خفية برشاقة وخفة، ونشاط وهمة، قال البيضاوي: وأصله الميل بحيلة { إلى آلهتهم } أي أصنامهم التي زعموها آلهة، وقد وضعوا عندها طعاماً، فخاطبها مخاطبة من يعقل لجعلهم إياها بذلك في عداد من يعقل { فقال } منكراً عليها متهكماً بها ظاهراً وموبخاً لقومه حقيقة: { ألا تأكلون * } ثم زاد في إظهار الحق والاستهزاء بانحطاطها عن رتبة عابديها فقال: { ما } أي أيّ شيء حصل { لكم } في أنكم { لا تنطقون * }.
ولما أخبر تعالى أنه أظهر ما يعرفه باطناً من الحجة فقال: { فراغ } أي سبب عن إقامته الحجة أنه أقبل مستعلياً { عليهم } بغاية النشاط والخفة والرشاقة يضربهم { ضربا باليمين * } أي بغاية القوة، وجعل السياق للمصدر إشارة إلى قوة الهمة بحيث صار كله ضرباً. ولما تسبب عن ذلك أنهم لما علموا بكسرها ظنوا فيه لما كانوا يسمعونه منه من ذمها وحلفه بأنه ليكيدنها فأتوه، أخبر عن ذلك بقوله مسبباً: { فأقبلوا } ودل على أنه من مكان بعيد بقوله: { إليه يزفون * } أي يسرعون، وقراءة حمزة بالبناء للمفعول أدل على شدة الإسراع لدلاتها على أنهم جاؤوا على حالة كان حاملاً يحملهم فيها على الإسراع وقاهراً يقهرهم عليه من شدة ما في نفوسهم من الوجد.
ولما كان من المعلوم أنهم كلموه في ذلك فطال كلامهم، وكان تشوف النفس إلى جوابه أكثر، استأنف الخبر عنه في قوله: { قال } غير هائب لهم ولا مكترث بهم لرؤيته لهم فانين منكراً عليهم: { أتعبدون } وندبهم بالمضارع إلى التوبة والرجوع إلى الله، وعبر بأداة ما لا يعقل كما هو الحق فقال: { ما تنحتون * } أي إن كانت العبادة تحق لأحد غير الله فهم أحق أن يعبدوكم لأنكم صنعتموهم ولم يصنعوكم. ولما كان المتفرد بالنعمة وهو المستحق للعبادة، وكان الإيجاد من أعظم النعم، وكان قد بين أنهم إنما عبدوها لأجل عملهم الذي عملوه فيها فصيرها إلى ما صارت إليه من الشكل، قال تعالى مبيناً أنه هو وحده خالقهم وخالق أعمالهم التي ما عبدوا في الحقيقة إلا هي، وأنه لا مدخل لمنحوتاتهم في الخلق فلا مدخل لها في العبادة: { والله } أي والحال أن الملك الأعظم الذي لا كفوء له { خلقكم } أي أوجدكم على هذه الأشكال { وما تعملون * } أي وخلق عملكم ومعمولكم، فهو المتفرد بجميع الخلق من الذوات والمعاني، ومعلوم أنه لا يعبد إلا من كان كذلك لأنه لا يجوز لعاقل أن يشكر على النعمة إلا ربها.