التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ
٩٧
فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ
٩٨
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٩٩
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠٠
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ
١٠١
-الصافات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان السامع يعلم أنهم لا بد وأن لا يجيبوه بشيء، فتشوف إلى ذلك، أجيب بقوله: { قالوا ابنوا له } أي لأجله { بنياناً } أي من الأحطاب حتى تصير كالجبل العظيم، فاحرقوها حتى يشتد لهبها جداً فيصير جحيماً { فألقوه في } ذلك { الجحيم * } أي معظم النار، وهي على أشد ما يكون إيقاداً.
ولما كان هذا مسبباً عن إرادتهم لإهانته قال: { فأرادوا به } أي إبراهيم عليه السلام بسبب هذا الذي عملوه { كيداً } أي تدبيراً يبطل أمره ليعلوا أمرهم ولا يبطل بما أظهر عن عجزهم دينهم { فجعلناهم } أي بعظمتنا بسبب عملهم { الأسفلين * } المقهورين بما أبطلنا من نارهم وجعلناها عليه برداً وسلاماً بضد عادتها في العمل، فنفذ عملنا وهو خارق للعادة وبطل عملهم الذي هو على مقتضى العادة، فظهر عجزهم في فعلهم كما ظهر عجزهم في قولهم، بما أظهرناه من الحجة على لسان خليلنا عليه السلام، وظهرت قدرتنا واختيارنا، وإنما فسرت الكيد بما ذكرت لأنه المكر والخبث والاحتيال والخديعة والتدبير بحق أو باطل والحرب والخوف، فكل هذه المعاني - كما ترى - تدور على التدبير وإعمال الفكر وإدارة الرأي.
ولما كان التقدير: فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد، عطف عليه قوله: { وقال } أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكداً لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به: { إني ذاهب } أي مهاجر من غير تردد، قالوا: وهو أول من هاجر من الخلق { إلى ربي } أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه.
ولما كان حال سامعه جديراً بأن يقول: من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل فيه مما يكون به الصلاح، وما تفعل في التوصل إليه؟ قال: { سيهدين * } أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها، وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلاً يهدي إليه، ويسهل لقاصدة المجتهد في أمره سبيله، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقوله
{ ولما جاء موسى لميقاتنا } [الأعراف: 143] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقوله { { سبحان الذي أسرى بعبده } [الأسراء:1] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات: إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لا بد من ذلك - وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولاً، ثم أخبر أنه قال { رب أرني } فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعين جمع الجمع - لأن لم ينسب إليه قول ولا فعل، بل هو المراد إلى أن قال { لنريه من آياتنا } فهذا هو الفناء حتى عن الفناء، ثم قال: { أنه هو السميع البصير } فأثبت له مع ذلك الكمال.
ولما لم يجد له معيناً على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام، قال منادياً مناداة الخواص بإسقاط الأداة: { رب } أي أيها المحسن إلي { هب لي من } أي ولداً من { الصالحين * } وأسقط الموصوف لأن لفظ الهبة غلب في الولد، فتسبب عن دعوته أنا استجبناها له { فبشرناه بغلام } أي بذكر في غاية القوة التي ينشأ عنها الغلمة.
ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش، وصفه بما أبقى صفاءه ونفى كدره فقال: { حليم * } أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة، لأنه في غاية الرزانة والثبات، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم، والحلم لا يكون إلا بعد العلم، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم، وهو اتساع الصدر لمساوىء الخلق ومدانىء أخلاقهم، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوه: منها وصفه بالحليم، ووصف إسحاق عليه السلام في سورة الحجر بالعليم، ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شاباً يرجو الولد، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح، فجعلت أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته، ولذلك راجع في أمره ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس، ولو كان هو الذبيح لذكره النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه حين سئل عن الأكرم فقال:
" يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" ، والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة، بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعاً، ولأن هذه السورة سورة التنزيه، فأحق الناس بالذكر فيها - كما سلف - أعرق الناس في قدم التجريد، وهو أولى الناس بذلك من حين كان حملاً إلى أن عولج ذبحه، ولم يذكر ظاهراً، فلو لم يكن المراد بهذا الكلام لكان ترك في هذه السورة - التي حالها هذا - من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها، وذلك خارج عن نهج البلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال، بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق عليه السلام، لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه، وما كان ذكره إلا لبيان جزاء إبراهيم عليه السلام لما اقتضاه مقامه في الاجسان في باب التجريد والفناء - والله الموفق.