التفاسير

< >
عرض

أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ
٩
أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ
١٠
جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ
١١
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ
١٢

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أرشد إنكارهم خصوصيته بالذكر بنفي شكهم اللازم منه إثبات أنهم على علم بأنه مرسل، وأنه أحقهم بالرسالة إلى أن التقدير: أفيهم غيره من هو أهل لتلقي هذا الذكر حتى ينزله الله عليه ويترك هذا البشير النذير صلى الله عليه وسلم، عادل به قوله: { أم عندهم } أي خاصة دون غيرهم { خزائن رحمة } ولما كان إنزال الوحي إحساناً إلى المنزل عليه، عدل عن إفراد الضمير إلى صفة الإحسان المفيدة للتربية، فقال مخاطباً له صلى الله عليه وسلم لأنه أضخم لشأنه، وأفخم لمقداره ومكانه: { ربك } أي المحسن إليك بإنزاله ليخصوا به من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا { { أهم يقسمون رحمة ربك } [الزخرف: 32] ولما كان لا يصلح للربوبية إلا الغالب لكل ما سواه، المفيض على من يشاء، ما يشاء، قال: { العزيز الوهاب * } أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ويفيض على جهة التفضل ما يشاء على من يريد، وله صفة الإفاضة متكررة الآثار على الدوام، فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى.
ولما سلب عنهم التصرف في الخزائن، أتبعه نفي الملك عما شاهدوا منها وهو جزء يسير جداً فقال: { أم لهم } أي خاصة { ملك السماوات والأرض } ولما كان الحكم على ذلك لا يستلزم الحكم على الفضاء قال: { وما بينهما } أي لتكون كلمتهم في هذا الكون هي النافذة ويتكلموا في الأمور الإلهية ويسندوا ما شاؤوا من الأمور الجليلة إلى من شاؤوا، ثم بين عجزهم وبكتهم وقرعهم ووبخهم بما سبب عن ذلك من قوله: { فليرتقوا * } أي يتكلفوا الرقي إن كان لهم ذلك { في الأسباب * } أي الطرق الموصلة إلى السماء ليستووا على العرش الذي هو أمارة الملك فيدبروا العالم فيخصوا من شاؤوا بالرسالة ليعلم أن لهم ذلك وأنه لا يسوغ لأحد أن يختص دونهم بشيء.
ولما انتفى عنهم بما مضى وعن كل من يدعون ممالأته ومناصرته عن آلهتهم وغيرها خصائص الإلهية، أنتج ذلك أنهم من جملة عباده سبحانه، فعبر عن حالهم بأعلى ما يصلون إليه من التجمع والتعاضد الذي دل عليه ما تقدم الإخبار عنه من عزتهم وشقاقهم، ونفرتهم عن القبول وانطلاقهم، فقال مخبراً عن مبتدأ حذف لوضوح العلم به: { جند ما } أي ليسوا في شيء مما مضى وإنما هم جند حقيرون من بعض جنودنا متعاونون في نجدة بعضهم لبعض، قال أبو حيان: ويجوز أن تكون "ما" صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن "ما" الصفة تستعمل لهذين المعنيين. وبين بعدهم من غير ما أقامهم فيه واستعملهم له من الرتب التي فرضها لهم وسفولهم عنها بقوله واصفاً لجند: { هنالك } أي في الحضيض عن هذه المرامي العالية، وبين أنه كثيراً ما تحزب أمثالهم على الرسل فما ضروا إلا أنفسهم بقوله واصفاً بعد وصف مفرداً تحقيراً: { مهزوم } أي له الانهزام صفة راسخة ثابتة { من الأحزاب * } أي الذين جرت عادتهم عزة وشقاقاً بالتحزب على الأنبياء ثم تكون عليهم الدائرة، وللرسل عليهم السلام العاقبة، فلا تكترث بهم أصلاً قال ابن برّجان: فكان أول جند مهزوم منهم جند غزوة بدر، ثم انبسط صدق الحديث على جنود كثيرة في وقائع مختلفة.
ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال: { كذبت } ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل: { قبلهم } أي مثل تكذيبهم. ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال: { قوم نوح } واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا.
ولما كان لقوم هود عليه السلام بعدهم من الضخامة والعز ما ليس لغيرهم مع قوة الأبدان وعلوا الهمم واتساع الملك حتى بنوا جنة في الأرض، أتبعهم بهم، ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح التي هي سبب السحاب الحامل للماء فقال: { وعاد } مسمياً لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك، واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح، ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض، وهجم عليهم أوائلها وهم يرون هوداً عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم في عافية منها، ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم ولا يذعنون لما دعاهم إليه.
ولما كان لهم من القوة والملك في جميع الأرض وبناء إرم ذات العماد ما يتضاءل معه ملك كل ملك، أتبعهم ملكاً ضخماً قهر غيره بعز سلطانه وكثرة أعوانه، حتى ادعى الألهية في زمانه، وتكبر بسعة ملكه والأنهار الجارية من تحته مع ما له من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطناً وإن كان بالماء ظاهراً, وذلك أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر أرسل الله الريح ففرقته طرقاً وأيبست تلك الطرق، ولما خلص بنو إسرائيل أمرها الله تعالى فسكنت، فانطبق البحر على فرعون وآله، فقال تعالى: { وفرعون } ذكره باسمه نصاً على حقيقة أمره وتصريحاً بكفره إبطالاً لما أظهره الأخابث من شره طعناً في الدين وتشكيكاً لضعفاء المسلمين.
ولما نص على كفره، وصفه بما يدل مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر وعلى كفر قومه فقال: { ذو الأوتاد * } أي الأسباب الموجبة لثبات الملك وتقويته من علو السلطان بكثرة الأعوان والتفرد بالأوامر وسعة العقل ودقة المكر وكثرة الحيل بالسحر وغيره وجودة التدبير بالعدل فيما يزعم وصولة القهر، قال أبو حيان: وأصله من البيت المطنب بأوتاده - قال الأفوه الأودي:

والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

واستمروا في عزة وشقاق وهم يضربون تارة بالطوفان وتارة بالجراد وتارة بالقمل، وأخرى بالضفادع وبغير ذلك، إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية ولم يردهم شيء من ذلك عن شقاقهم إلى أن غرقوا على كفرهم عن بكرة أبيهم كما صرحت به هذه الآية.