التفاسير

< >
عرض

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ
٣١
فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ
٣٢
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ
٣٣
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ
٣٤
قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ
٣٥
فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ
٣٦
وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ
٣٧

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت الخيل من أعظم ما زين للناس من حب الشهوات، وكان السياق للعزة والشقاق الدالين على عظيم الاحتياج إلى ما يكف ذلك مما أعظمه الخيل، ذكر فيها آمراً له صلى الله عليه وسلم، دل على أنه مع ما له من عظمة الملك كثير الأوبة عظيمها لأن من لم يكن ذلك له طبعاً لم يقدر على ما فعل فقال: { إذ } أي اذكر لتقف على شاهد ما أخبرناك به حين { عرض عليه بالعشيّ } أي فيما بعد زوال الشمس { الصافنات } أي الخيول العربية الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمتها وإظهاراً لقوتها ورشاقتها وخفتها، قال في القاموس: صفن الفرس يصفن صفوناً: قام على ثلاث قوائم وطرف حافز الرابعة، وقال القزاز: قام على ثلاث قوائم وقائمة يرفعها عن الأرض أو ينال سنبكها الأرض ليستريح بذلك، وأكثر ما تصفن الخيل العتاق، قال: وقالوا: كل ذي حافز يفعله ولكنه من الجياد أكثر، لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص، وقيل: الصافن الذي يجمع يديه ويثني طرف سنبك إحدى رجليه، وقيل: الصافن الذي يرفع سنبك إحدى يديه فإذا رفع طرف سنبك إحدى رجليه فهو مخيم، وقد أخام - إذا فعل ذلك.
ولما تحرر أنه يجوز أن يجمل الصافن على غير العتيق وإن كان قليلاً، حقق أن المراد الوصف بالجودة واقفة وجارية فقال: { الجياد * } أي التي تجود في جريها بأعظم ما تقدر عليه، جمع جواد، فلم تزل تعرض عليه حتى فاتته صلاة آخر النهار، وكان المفروض على من تقدمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.
ولما كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته له وسرعة أوبته بقوله: { فقال } ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله: { إني } ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب فهو غير دال عليه إلا بقرائن قال اعترافاً: { أحببت } أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود { حب الخير } وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي
"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً { عن ذكر ربي } المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي { حتى توارت } أي الشمس المفهومة من "العشي" { بالحجاب * } وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة.
ولما اشتد تشوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأواب بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل، أجيب بقوله: { ردوها } أي قال سليمان عليه السلام: ردوا { عليّ } الخيول التي شغلتني. ولما كان التقدير: فردوها عليه، نسق به قوله: { فطفق } أي أخذ يفعل ظافراً بمراده لازماً له مصمماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدو لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذكر معرضاً عما يمكن أن يتعلق به القلب متقرباً به إلى الله تعالى كما يتقرب في هذه الملة بالضحايا { مسحاً } أي يوقع المسح - أي القطع - فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً. ولما كان السيف إنما يقع في جزء يسير من العضوين أدخل الباء فقال: { بالسوق } أي منها { والأعناق * } يضربها ضرباً بسيف ماض وساعد شديد وصنع سديد يمضي فيها من غير وقفة أصلاً حتى كأنه يمسحه مسحاً على ظاهر جلودها كما يقال: مسح علاوته، أي ضرب عنقه - والله أعلم.
ولما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان، وكانت الأوبة عظيمة جداً، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب: { ولقد فتنا } أي بما لنا من العظمة { سليمان } أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة، الله أعلم بحقيقتها، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً { وألقينا } أي بما لنا من العظمة { على كرسيه } الذي كانت تهابه أسود الفيل.
ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه، له صورة بلا معنى، قال: { جسداً } فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً عن أن يغلب عليه، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا، نفعل ما نشاء بمن نشاء، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك من نفوذ الأمر وضخامة العز وإحلال الساحة الحرام بقدر الحاجة, وسعة الملك وبقاء الذكر، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار.
ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له، لا أنه لا روح فيه، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد كما فعل في العجل حيث قال "له خوار" فبين بذلك أنه لا روح له، وإن صح أن هذا الجسد هو صخر الجني وأن سببه سجود الجرادة امرأة سليمان عليه السلام لصورة أبيها بغير علم نبي الله سليمان عليه السلام ولا إرادته، فالإشارة بذلك في التسلية أنا سلبنا الملك من صفينا لصورة رفع سجود بعض من ينسب إليه لها في بيته أمره ولا إرادته ولا علمه، فكيف بمن يسجد لهذه الأوثان في البيت الحرام فعما قليل نزيل أمرهم ونخمد شرهم ونمحو ذكرهم.
ولما كانت الإنابة رجوعاً إلى ما كان، فهي استرجاع لما فات قال: { ثم أناب * } وفسر الإنابة ليعلم أنه تعالى فتنه مع أنه عبد عظيم المنزلة مجاب الدعوة بقوله جوباً لمن سأل عنها: { قال ربّ } أي أيها المحسن إلي { اغفر لي } أي الأمر الذي كانت الإنابة بسببه. ولما قدم أمر الآخرة، أتبعه قوله: { وهب لي } أي بخصوصي { ملكاً لا ينبغي } أي لا يوجد طلبه وجوداً تحصل معه المطاوعة والتسهل { لأحد } في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال: { من بعدي } حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب إليك وجهاد من عاداك، ويكون ذلك إمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء شيء على مكان حكمي ولا غيره, وهذا يشعر بأن الفتنة كانت في الملك, وكذا ذكر الإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو صلى الله عليه وسلم شيء، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز - والله أعلم، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده، ثم علل ما طلبه من الإعطاء والمنع بقوله على سبيل التأكيد إسقاطاً لما غلب على النفوس من رؤية الأسباب: { إنك أنت } أي وحدك { الوهاب * } أي العظيم المواهب مع التكرار كلما أردت، فتعطي بسبب وبغير سبب من تشاء وتمنع من تشاء.
ولما تسبب عن دعائه الإجابة، أعلم به سبحانه بقوله: { فسخرنا } أي ذللنا بما لنا من العظمة { له الريح } لإرهاب العدو وبلوغ المقاصد عوضاً عن الخيل التي خرج عنها لأجلنا؛ ثم بين التسخير بقوله مستأنفاً: { تجري بأمره رخاء } أي حال كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا يدرك بالخيل { غدوها شهر ورواحها شهر } وكل من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وهو هنا مبالغة من الرخاوة. ولما كانت إصابته لما يشاء ملازمة لإرادته، عبر بها عنها لأنها المقصود بالذات فقال: { حيث أصاب * } أي أراد إصابة شيء من الأشياء، وقد جعل الله لنبينا صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فيه أربعة أشهر { والشياطين } أي الذين عندهم خفة الريح مع الاقتران بالروح سخرناهم له؛ ثم نبه على منفعتهم بالإبدال منهم فقال: { كل } وعبر ببناء المبالغة في سياق الامتنان فقال: { بناء وغواص * } أي عظيم في البناء صاعداً في جو السماء والغوص نازلاً في أعماق الماء، يستخرج الدر وغيره من منافع البحر.