التفاسير

< >
عرض

وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٣٨
هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٩
وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ
٤٠
وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
٤١

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل على مطلق تسخيرهم، دل على أنه قهر وغلبة كما هو شأن أيالة الملك وصولة العز فقال: { وآخرين } أي سخرناهم له من الشياطين حال كونهم { مقرنين } بأمره إلى من يشاكلهم أو مقرونة أيديهم بأرجلهم أو بأعناقهم، وعبر به مثقلاً دون "مقرونين" مثلاً إشارة إلى شدة وثاقهم وعظيم تقرينهم. ولما كانت مانعة لهم من التصرف في أنفسهم، جعلوا كأنهم بأجمعهم فيها وإن لم يكن فيها إلا بعض أعضائهم مثل { جعلوا أصابعهم في آذانهم } [نوح: 7] فقال: { في الأصفاد * } أي القيود التي يوثق بها الأسرى من حديد أو قيد أو غير ذلك، جمع صفد - بالتحريك، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان { هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فرددته خاسئاً" ، وقد حكمه الله في بعض الجن، فحمي من الذين يطعنون دار مولده ودار هجرته، روى أحمد في مسنده بسند حسن إن شاء الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما ملك، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون" . هذا في البلدين، وأما المدينة خاصة ففيها أحاديث عدة عن عدة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، وقد عوض الله نبينا صلى الله عليه وسلم عن الشياطين التأييد بجيوش الملائكة في غزواته، وقد كان نبينا عبداً كما اختار فلم يكن له حاجة بغير ذلك.
ولما كان ذلك ملكاً عظيماً، نبه على عظمته بكثرته ودوامه وعظمة مؤتيه فقال مستأنفاً بتقدير: قلنا له ونحوه: { هذا } أي الأمر الكبير { عطاؤنا } أي على ما لنا من العظمة؛ ثم سبب عن ذلك إطلاق التصرف الذي هو أعظم المقاصد، فكم من مالك لشيء وهو مغلول اليد عن التصرف فيه، فقال بادئاً بما يوجب الحب ويقبل بالقلوب دالاً على عظمته وظهور أمره بفك الإدغام: { فامنن } أي أعط من شئت عطاء مبتدئاً من غير تسبب من المعطي: { أو أمسك } أي عمن شئت.
ولما كان هذا عطاء يفوت الوصف عظمه، زاده تعظيماً بكثرته وتسهيله وسلامة العاقبة فيه فقال: { بغير } أي كائناً كل ذلك من العطاء والمن خالياً عن { حساب * } لأنك لا تخشى من نقصه وربك هو المعطي والآمر، ولا من كونه مما يسأل عنه في الآخرة لأنه قد أذن لك، فنفي الحساب عنه يفيد شيئين الكثرة وعدم الدرك في إعطاء أو منع، وجعله مصدراً مزيداً يفهم أنه إنما ينفي عنه حساب يعتد به لا مطلق حسب بالتخمين كما يكون في الأشياء التي تعيي الحاصر فيقرب أمرها بنوع حدس.
ولما رفع الحرج عنه في الدارين، أثبت المزيد فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا له في الدنيا، مؤكداً زيادة في الطمأنية لكونه خارقاً لما حكم به من العادة في أنه كل ما زاد عن الكفاف في الدنيا كان ناقصاً للحظ في الآخرة: { وإن له } أي خاصاً به { عندنا } أي في الآخرة { لزلفى } أي قربى عظيمة { وحسن مآب * } أي مرجع.
ولما انقضى الخبر عن الملك الأواب الذي ملك الدنيا بالفعل قهراً وغلبة شرقاً وغرباً، وكان أيوب عليه السلام في ثروة الملوك وإن لم يكن ملكاً بالفعل، وكان تكذيب من كذب بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بتسليط الله الشياطين بوسوسته عليهم، وأمره سبحانه بالصبر على ذلك وقص عليه من أخبار الأوابين تعليماً لحسن الأوبة إن وهن الصبر، أتبعه الإخبار عن الصابر الأواب الذي لم يتأوه إلا من وسوسة الشيطان لزوجه بما كان يفتنها ليزداد النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الأخبار صبراً ويتضاعف إقباله على الله تعالى وتضرعه له اقتداء بإخوانه الذين لم تشغلهم عنه منحة السراء ولا محنة الضراء، وتذكيراً لقدرة الله على كل ما يريده تنبيهاً على أنه قادر على رد قريش عما هم فيه ونصر المستضعفين من عباده عليهم بأيسر سعي فقال: { واذكر عبدنا } أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا، وبينه بقوله: { أيوب } وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه.
ولما أمره بذكره، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال: { إذ } أي اذكر حاله الذي كان حين: { نادى } وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال: { ربه }: أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه - وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى - أتاه ما لا صبر عليه: { إني } أي رب أدعوك بسبب أني. ولما كان هنا في سياق التصبير, عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال: { مسّني } أي وأنا من أوليائك { الشيطان } أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له { بنصب } أي ضر ومشقة وهم داء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتبعه ويعيده ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه، والمحرك أوسطه، والمثقل بالضم أعلاه { وعذاب * } أي نكد قوي جداً دائم مانع من كل ما يلذ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى، وأوهن البلاء القوي، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً، فلذلك ثم تراءى لزوجته رضي الله عنها في زي طبيب وقال لها: أنا أداويه ولا أريد أن يقول لي، إذا عوفي أنت شفيتني، وقيل: قال لها: لو سجد لي سجدة واحدة شفيته، فأتته وحدثته بذلك فأخبرها وعرفها أنه الشيطان، وحذرها منه وخاف غائلته عليها، فدعا الله بما تقدم وشدد النكير والتعظيم لما وسوس لها به بأن حلف ليضربنها مائة ضربة، ردعاً لها عن الإصغاء إلى شيء من ذلك، وتهويناً لما يلقاه من بلائه في جنبه.