التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ
٧١
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٧٢
فَسَجَدَ ٱلْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
٧٣
إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
٧٤

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل على أنه نذير، وأزال ما ربما أوردوه عليه، أتبعه ظرف اختصام الملأ الأعلى، أو بدل "إذ" الأولى فقال: { إذ } أي حين { قال } ودل على أنه هذا كله إحسان إليه وإنعام عليه بذكر الوصف الدال على ذلك، ولفت القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أقعد في المدح وأدل على أنه كلام الله كما في قوله: { قل من كان عدواً لجبريل } [البقرة: 97] دليلاً يوهم أنه ظرف ليوحى أو لنذير فقال: { ربك } أي المحسن إليك بجعلك خير المخلوقين وأكرمهم عليه فإنه أعطاك الكوثر، وهو كل ما يمكن أن تحتاج إليه { للملائكة } وهم الملأ الأعلى وإبليس منهم لأنه كان إذ ذاك معهم وفي عدادهم. ولما كانوا عالمين بما دلهم عليه دليل من الله كما تقدم في سورة البقرة أن البشر يقع منه الفساد، فكانوا يبعدون أن يخلق سبحانه من فيه فساد لأنه الحكيم الذي لا حكيم سواه، أكد لهم سبحانه قوله: { إني خالق بشراً } أي شخصاً ظاهر البشرة لا ساتر له من ريش ولا شعر ولا غيرهما ليكون التأكيد دليلاً على ما مضى من مراجعتهم لله تعالى التي أشار إليها بالاختصام، وبين أصله بقوله معلقاً بخالق أو بوصف بشر: { من طين * } اجعله خليفتي في الأرض وإن كان في ذلك فساد لأني أريد أن أظهر حلمي ورحمتي وعفوي وغير ذلك من صفاتي التي لا يحسن في الحكمة إظهارها إلا مع الذنوب "لو لم تذنبوا فتستغفروا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" قال القشيري: وإخباره للملائكة بذلك يدل على تفخيم شأن آدم عليه السلام لأنه خلق ما خلق من الكونين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة، ولم يقل في صفة شيء منها ما قاله في صفة آدم عليه السلام وأولاده، ولم يأمر بالسجود لشيء غيره.
ولما أخبرهم سبحانه بما يريد أن يفعل، سبب عنه قوله: { فإذا سويته } أي هيأنه بإتمام خلقه لما يراد منه من قبول الروح وما يترتب عليه { ونفخت فيه من روحي } فصار حساساً متنفساً، سبه سبحانه إفاضته الروح بما يتأثر عن نفخ الإنسان من لهب النيران، وغير ذلك من التحريك والإسكان، والزيادة والنقصان، وأضافه سبحانه إليه تشريفاً له، { فقعوا له } أي خاصة { ساجدين * } أي اسجدوا له للتكرمة امتثالاً لأمري سجوداً هو بغاية ما يكون من الطواعية والاختيار والمحبة لتكونوا كأنكم وقعتم بغير اختيار، ففعلوا ما أمرهم به سبحانه من غير توقف، ولذلك ذكر فعلهم مع جواز تأنيثه فقال: { فسجد } أي عند ما نفخ فيه الروح { الملائكة } على ما أمرهم الله، ولما كان إسناد الخبر إلى الجميع قد يراد به أكثرهم، أكد بقوله: { كلهم } إرادة لرفع المجاز.
ولما كان لا يقدح في ذلك واحد مثلاً أو قليل لا يعبأ بهم لضعف أو نحوه، رفع ذلك بقوله: { أجمعون* } مع إفادة أن السجود كان في آن واحد إعلاماً بشدة انقيادهم، وحسن تأهبهم للطاعة واستعدادهم، ثم زاد في إيضاح العموم بالاستثناء الذي هو معياره فقال: { إلا إبليس } عبر عنه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى أنه في أول خطاب الله له بالإنكار عليه على كيفية علم منها تأبد الغضب عليه وتحتم العقوبة له.
ولما عرف بالاستثناء أنه لم يسجد، وكان مبنى السورة على استكبار الكفرة بكونهم في عزة وشقاق، بين أن المانع له من السجود الكبر تنفيراً عنه مقتصراً في شرح الاختصام عليه وعلى ما يتصل به فقال: { استكبر } أي طلب أن يكون أكبر من أن يؤمر بالسجود له وأوجد الكبر على أمر الله، وكان من المستكبرين العريقين في هذا الوصف كما استكبرتم أيها الكفرة على رسولنا، وسنرفع رسولنا صلى الله عليه وسلم كما رفعنا آدم صفينا عليه السلام على من استكبر عن السجود له، ونجعله خليفة هذا الوجود كما جعلنا آدم عليه السلام، وأشرنا إلى ذلك في هذه السورة بافتتاحها بخليفة واختتامها بخليفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر كل من أحوالهما.
ولما كان الفعل الماضي ربما أوهم أنه حدث فيه وصف لم يكن، وكان التقدير: فكفر بذلك، عطفاً عليه بياناً لأنه جبل على الكفر ولم يحدث منه إلا ظهور ذلك للخلق قوله: { وكان } أي جبلة وطبعاً { من الكافرين * } أي عريقاً في وصف الكفر الذي منشؤه الكبر على الحق المستلزم للذل للباطل، فالآية من الاحتباك: ذكر فعل الاستكبار أولاً، دليلاً على فعل الكفر ثانياً ووصف الكفر ثانياً دليلاً على وصف الاستكبار أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أقعد في التحذير بأن من وقع منه كبر جره إلى الكفر.