التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤
فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧
ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩
-الزمر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما بين ما أمر به، وأعلم أنه يخاف من مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به، أمره سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح من المزية ما لا يخفى فقال: { قل الله } أي المحيط بصفات الكمال وحده { أعبد } تخصيصاً له بذلك، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً { مخلصاً له } وحده { ديني * } أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر، فصارت عبادتي لآجل وجهه وكونه مستحقاً للعبادة خاصة شوقاً إليه وحباً له وحياء منه, وأما الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي لأجل إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية.
ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أقواهم قلباً وأصفاهم لباً، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً، كان خوف غيره من باب الأولى، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديد بقوله: { فاعبدوا } أي أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء المعرضون عنه في وقت الرخاء { ما شئتم } أي من جماد أو غيره. ونبّه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه سبحانه تسفيهاً لمن يلتفت إلى سواه بقوله: { من دونه } فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه، ولا إحسان إلا إحسانه، فإذا انقطع حصل كل سوء، وفي ذلك جميع الخسارة.
ولما كانوا يدعون الذكاء، ويفعلون ما لا يفعله عاقل، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم بما يصيرون إليه من شقاوتهم فقال: { قل إن الخاسرين } أي الذين خسارتهم هي الخسارة لكونها النهاية في العطب { الذين خسروا أنفسهم } أي بدخولهم النار التي هي معدن الهلاك لعبادتهم غير الله من كل ما يوجب الطغيان. ولما كان أعز ما على الإنسان بعد نفسه أهله الذين عزه بهم قال: { وأهليهم } أي لأنهم إن كانوا مثلهم فحالهم في الخسارة كحالهم، ولا يمكن أحداً منهم أن يواسي صاحبه بوجه فإنه لكل منهم شأن يغنيه، وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم.
ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات، قال: { يوم القيامة } لأن ذلك اليوم هو الفيصل لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلاً ولما كان في ذلك غاية الهول. كرر التعريف بغباوتهم تنبيهاً على رسخوهم في ذلك الوصف على طريق النتيجة لما أفهمه ما قبله, فقال منادياً لأنه أهول مبالغاً بالاستئناف وحرف التنبيه وضمير الفصل وتعريف الخبر ووصفه: { ألا ذلك } أي الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جداً { هو } أي وحده { الخسران } أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة فكيف إذا بنيت على الضم الذي هو أثقل الحركات، وزاد في تقريعهم بالغباوة بقوله: { المبين * }.
ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره، فصله بقوله على طريق التهكم بهم: { لهم } فإن عادة اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الظلل, وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال: { من فوقهم ظلل } ولما أوهمهم ذلك الراحة، أزال ذلك بقوله: { من النار } وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر. ولما كان في القرار - كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب، يصعدهم اللهيب تارة، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار، يغلي به صاعداً وسافلاً، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله: { ومن تحتهم }.
ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة، أعادها ولم يكتف بالأولى، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال: { ظلل } ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال:
"من رأى منكم الليلة رؤيا، فسألنا يوماً قلنا: لا، قال: لكني رأيت رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة " - فذكره بطوله حتى قال: "فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقد تحته نار، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا" فذكره وهو طويل عظيم، ثم فسرهم بالزناة.
لما كان هذا أمراً مهولاً، وهو لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال: { ذلك } أي الأمر العظيم الشأن { يخوف الله } أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر { به عباده } أي الذين لهم أقلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيعيذهم منه. ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال: { يا عباد فاتقون * } أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم.
ولما ذكر ما لمن عبد الطاغوت، عطف عليه أضدادهم ليقترن الوعد بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب فقال: { والذين اجتنبوا } أي كلفوا أنفسهم ذلك لما لها في الانسياق إليه من الهوى مع تزيين الشيطان "حفت النار بالشهوات" ولما كان للإجمال ثم البيان موقع عظيم، قال: { الطاغوت } وهو كل ما عبد من دون الله، فلغوت من الطغيان وهو صيغة مبالغة، وفيه مبالغة أخرى بجعل الذات عين المعنى، ودل على عكس من تبعها بتعكيس حروفها، ولما ذكر اجتنابها مطلقاً ترغيباً فيه، بين خلاصة ما يجتنب لأجله مع التنفير منها بتأنيثها الذي أبصره المنيبون بتقوية الله لهم عليها حتى كانوا ذكراناً وهم إناثاً عكس ما تقدم للكفار في البقرة، فقال مبدلاً منها بدل اشتمال: { أن يعبدوها }.
ولما ذكر اجتناب الشرك، أتبعه التزام التوحيد فقال: { وأنابوا } أي رجعوا رجوعاً عظيماً أزالوا فيه النوبة وجعلوها إقبالة واحدة لا صرف فيها { إلى الله } أي المحيط بصفات الكمال فلا معدل عنه { لهم البشرى } في الدنيا على ألسنة الرسل وعند الموت تتلقاهم الملائكة فقد ربحوا ربحاً لا خسارة معه لأنهم انتفعوا بكلام الله فأخلصوا دينهم له فبشرهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال مسبباً عن عملهم، صارفاً القول إلى التكلم بالإفراد تشريفاً للمبشرين الموصوفين: { فبشر عباد * } أي الذين أهلوا أنفسهم بقصر هممهم عليّ للإضافة إليّ { الذين يستمعون } أي بجميع قلوبهم { القول } أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على شيء أعرضوا عن غيره بغير دليل { فيتبعون } أي بكل عزائمهم بعد انتقاده: { أحسنه } بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى هوى، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم، فإن كتب الله كلها حسنة، وهذا القرآن أحسنها كلاماً، ومعاني ونظاماً، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق.
ولما بين عملهم، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد: { أولئك } أي العالو الهمة والرتبة خاصة { الذين } ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم، { هداهم الله } بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال { أولئك الذين هدى الله } فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال: { وأولئك هم } أي خاصة { أولوا الألباب * } أي العقول الصافية عن شوب كدر.
ولما خص سبحانه البشارة بالمحسنين، علم أن غيرهم قد حكم بشقاوته، وكان صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديراً بالأسف على من أعرض، سبب عن أسفه عليهم قوله: { أفمن حق } وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم { عليه كلمة العذاب } بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمساً في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها، أفأنت تنقذه من إعراضه الذي غمسه في النار؟ ثم دل على هذا الذي قدرته بقوله مؤكداً بإعادة حرف الاستفهام لأجل طول الكلام ولتهويل الأمر وتفخيمه للنهي عن تعليق الهم بهم لما عنده صلى الله عليه وسلم من جبلة العطف والرقة على عباد الله: { أفأنت تنقذ } أي تخلص وتمنع وتنجي، ووضع موضع ضميره قوله شهادة عليه بما هو مستحقه ولا يمكن غير الله فكه منه { من في النار * } متمكناً فيها شديد الانغماس في طبقاتها، والرسوخ بحيث إنها قد أحاطت به من كل جانب، وكان الأصل: أنت تنقذ من حق عليه العذاب، فقدم المفعول وجعله عمدة الكلام ليقرع السمع ويترقب الخبر عنه، ثم حذف خبره ليكون أهول فتذهب النفس فيه كل مذهب، ثم أنكر أن يكون أعلى الخلق ينقذه، فغيره من باب الأولى، فصار الكلام بذلك من الرونق والبهجة والهول والإرهاب ما لا يقدر البشر على مثله.