التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٢٤
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥
فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧
قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨
-الزمر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أتم الإنكار على من سوى، بين من شرح صدره ومن ضيق، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد، والثاني ضال، شرع في بيان ما لكل منهما نشراً مشوشاً في أسلوب الإنكار أيضاً، فقال مشيراً إلى أن الضلال سبب العذاب، والهدى سبب النعيم، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي القلب في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب، لتتقابل الآيتان، وتتعادل العبارتان: { أفمن } وأفرد على لفظ { من } لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال: { يتقي } ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله: { بوجهه } الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه { سوء العذاب } أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه { يوم القيامة } لأنه يرمي به في النار منكوساً وهو مكبل، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم، ويسحب في النار على وجهه، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه.
ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئاً، بني للمفعول قوله: { وقيل } له - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم به وجمع تنبيهاً على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئاً فقال: { للظالمين } أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا: { ذوقوا ما } أي جزاء ما { كنتم تكسبون * } أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم، وقيل لأهل النعيم: طيبوا نفساً وقروا عيناً جزاء بما كنتم تعلمون، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستفهام أولاً دليلاً على حذف متعلقه ثانياً، وما يقال للظالم ثانياً دليلاً على ما يقال للعدل أولاً.
ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول: فهل يعذبون في الدنيا: { كذب الذين } وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال: { من قبلهم } أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم: { فأتاهم العذاب } وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله: { من حيث } أي من جهة { لا يشعرون * } أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير.
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال: { فأذاقهم الله } أي الذي لا راد لأمره { الخزي } أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم { في الحياة الدنيا } أي العاجلة الدنية. ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه: { ولعذاب الآخرة } أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث: { أكبر } من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك: ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت. فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب.
ولما كان من علم أن فعله يورث نكالاً كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال: { لو كانوا يعلمون * } أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا، ولكنه لا علم لهم أصلاً، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكاً لأن بينها وبينه عداوة بما خلق الله في طبعه من أكل أمثالها، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق.
ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر: { ولقد ضربنا } على ما لنا من العظمة. ولما كان في سياق المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال { أمن هو قانت } إلى أن ختم بقوله { أفمن يتقي بوجهه } وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر، فقدم قوله: { للناس } أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة.
ولما كان المتعنت كثيراً، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف، وجعلها ما يعبر به عن القرب، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خلع القلوب وملأها، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان، فقال: { في هذا القرآن } أي الجامع لكل علم. ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفد وعجائبه لا تعد ولا تحد، وكان في سياق التعجيب من توقفهم قال { من كل مثل } أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة، ثم بين علة الضرب بقوله: { لعلهم يتذكرون * } أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً - بما أرشد إليه الإظهار، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان.
ولما كان ذلك غاية في الشرف، دل على زيادة شرفه بحال مؤكدة دالة على شدة عنادهم، تسمى موطئه لأن الحال في الحقيقة ما بعدها بقوله: { قرآناً } أي حال كون ذلك المضروب جامعاً لكن ما يحتاج إليه، ويجوز أن يكون النصب على المدح { عربياً } جارياً على قوانين لسانهم في جمعه باتساعه ووضوحه واحتمال اللفظ الواحد منه لمعان كثيرة، فكيف إذا انضم إلى غيره فصار كلاماً. ولما كان الشيء قد يكون مستقيماً بالفعل وهو معوج بالقوة، قال تعالى: { غير ذي عوج } أي ليس بمنسوب إلى شيء من العوج ولا من شأنه العوج، فلا يصح أن يكون معوجاً أصلاً في شيء من نظمه ولا معناه باختلاف ولا غيره كما في آية الكهف سواء، وفي الإتيان بعوج الذي هو مختص بالمعاني بيان أن الوصف له حقيقة، فهو أبلغ من غير معوج، لأنه يحتمل إرادة أهله على المجاز.
ولما كان التذكر بالتذكير لكونه أبلغ للوعظ حاملاً، ولا بد للعاقل على الخوف المسبب للنجاة قال: { لعلهم يتقون * } أي ليكون حالهم بعد التذكير الناشىء عن التذكير حال من يرجى له أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية.