التفاسير

< >
عرض

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٣٨
قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣٩
مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٤٠
إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ
٤١
-الزمر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما علم بهذه البراهين أنه سبحانه المتصرف في المعاني بتصرفه في القلوب بالهداية والإضلال، وكان التقدير: فلئن قررتم بهذا الاستفهام الإنكاري ليقولن: بلى! عطف عليه بيان أن الخالق للذات كما أنه المالك للمعاني والصفات، فقال مفسداً لدينهم باعترافهم بأصلين: القدرة التامة له والعجز الكامل لمعبوداتهم: { ولئن سألتهم } أي فقلت لمن شئت منهم فرادى أو مجتمعين: { من خلق السماوات } أي على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع { والأرض } على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع { ليقولن } بعد تخويفهم لك بشركائهم الذين هم من جملة خلق من أرسلك بما أنت فيه: الذي خلقها { الله } أي وحده الذي لا سمي له وإلباس بوجه في أمره، ولا يصدهم عن ذلك الحياء من التناقض ولا الخوف من التهافت بالتعارض.
ولما كان هذا مخيراً لأن بين ولا بد أنهم لا يقبلون ولا يعرضون كان كأنه قيل: فماذا أصنع؟ فقال: { قل } مسبباً عن اعترافهم له سبحانه بجميع الأمر قوله مقرراً بالفرع بعد إقرارهم بالأصل, ومقرعاً بتخويفهم ممن ليس له أمر بعقد ولا حل: { أفرءيتم }.
ولما كان السائل النصوح ينبغي له أنه ينبه الخصم على محل النكتة لينتبه من غفلته فيرجع عن غلطته, عبر بأداة ما لا يعقل عن معبوداتهم بعد التعبير عنها سابقاً بأداة الذكور العقلاء بياناً لغلطهم، فقال معبراً عن مفعول { رأيت } الأول والثاني جملة الاستفهام، { ما تدعون } أي دعاء عبادة، وقرر بعدهم عن التخويف بهم بادعاء إلهيتهم بقوله: { من دون الله } أي الذي هو ذو الجلال والإكرام فلا شيء إلا وهو من دونه وتحت قهره، ولما كانت العافية أكثر من البلوى، أشار إليها بأداة الشك ونبه على مزيد عظمته سبحانه بإعادة الاسم الأعظم فقال: { إن أرادني الله } أي الذي لا راد لأمره ولما كان درأ المفاسد مقدماً قال: { بضر } أي إن أطعتكم في الجنوح إليها خوفاً منها، وبالغ في تنبيههم نصحاً لهم ليرجعوا عن ظاهر غيهم بما ذكر من دناءتها وسفولها بالتأنيث بعد سفولها بعدم العقل مع دناءتها وبعد التهكم بهم بالتعبير عنها بأداة الذكور العقلاء فقال: { هل هن } أي هذه الأوثان التي تعبدونها { كاشفات } أي عني مع اعترافكم بأنه لا خلق لها وأنها مخلوقة لله تعالى { ضره } أي الذي أصابني به نوعاً من الكشف، لأرجوها في وقت شدتي { أو أرادني برحمة } لطاعتي إياه في توحيده، وخلع ما سواه من عبيده { هل هن ممسكات } أي عني { رحمته } أي لأجل عصياني لهن نوع إمساك، لأطيعكم في الخوف منهن - هذه قراءة أبي عمرو بالتنوين وإعمال اسم الفاعل بنصب ما بعده، وهو الأصل في اسم الفاعل، والباقون بالإضافة، ولا فائدة غير التخفيف، وقد يتخيل منها أن الأوثان مختصة بهذا المعنى معروفة.
ولما كان من المعلوم أنهم يسكتون عند هذا السؤال لما يعلمون من لزوم التناقض أن أجابوا بالباطل، ومن بطلان دينهم أن أجابوا بالحق، وكان الجواب قطعاً عن هذا: لا سوء نطقوا أو اسكتوا، تحرر أنه لا متصرف بوجه إلا الله، فكانت النتيجة قوله: { قل } إذا ألقمتهم الحجر: { حسبي } أي كافي { الله } الذي أفردته بالعبادة لأنه له الأمر كله مما يخوفونني به ومن غيره { عليه } وحده لأن له الكمال كله { يتوكل المتوكلون * } أي الذين يريدون أن يعلو أمرهم كل أمر، وأمره بالقول إعلاماً بأن حالهم عند هذا السؤال التناقض الظاهر جداً.
ولما كانوا مع هذه الحجج القاطعة، والأدلة القامعة والبراهين الساطعة، التي لا دافع لها بوجه، كالبهائم لا يبصرون إلا الجزئيات حال وقوعها، قال مهدداً مع الاستعطاف: { قل يا قوم } أي يا أقاربي الذين أرتجيهم عند الملمات, وفيهم كفاية في القيام بما يحاولونه { اعملوا } أي افعلوا افعالاً مبنية على العلم { على مكانتكم } أي حالتكم التي ترتبتم فيها وجمدتم عليها لأنه جبلة لكم من الكون والمكنة لتبصروا حقائق الأمور، فتنتقلوا عن أحوالكم السافلة إلى المنازل العالية، فكأنه يشير إلى أنهم كالحيوانات العجم، لا اختيار لهم ويعرّض بالعمل الذي مبناه العلم والمكانة التي محطها الجمود بأن أفعالهم ليس فيها ما ينبني على العلم، وإنما هي جزاف لا اعتبار لها ولا وزن لها. ثم أجاب من عساه أن يقول له منهم: فماذا تعمل أنت؟ بقوله: { إني عامل } على كفاية الله لي، ليس لي نظر إلى سواه، ولا أخشى غيره، وليس لي مكانة ألتزم الجمود عليها، بل أنا واقف على ما يرد من عند الله، إن نقلني انتقلت وإن أمرني بغير ذلك امتثلت, وأنا مرتقب كل وقت للزيادة، ثم سبب عن قول من لعله يقول منهم: وماذا عساه يكون قوله؟ إيذاناً بأنه على ثقة من أمره، لأن المخبر له به الله: { فسوف تعلمون * } أي بوعد لا خلف فيه { من يأتيه } أي منا ومنكم { عذاب يخزيه } بأن يزيل عنه كل شيء يمكنه أن يستعذبه { ويحل عليه } أي يجب في وقته، من حل عليه الحق يحل بالكسر أي وجب، والدين: صار حالاً بحضور أجله { عذاب مقيم * } لإقامته على حالته وجموده على ضلالته، ومن يؤتيه الله انتصاراً يعليه وينقله إلى نعيم عظيم، لانتقاله بارتقائه في مدارج الكمال، بأوامر ذي الجلال والجمال، ولقد علموا ذلك في قصة المستهزئين ثم في وقعة بدر فإن من أهلكه الله منهم جعل إهلاكه أول عذابه ونقله به إلى عذاب البرزخ ثم عذاب النار، فلا انفكاك له من العذاب، ولا رجاء لحسن المآب.
ولما تجلت عرائس هذه المعاني آخذة بالألباب، ولمعت سيوف تلك المباني من المثاني قاطعة الرقاب، وختمها بما ختم من صادع الإرهاب، أنتجت ولا بد قوله معللاً لإتيان ما توعدهم به مؤكداً لما لهم من الإنكار لمضمون هذا الإخبار: { إنا أنزلنا } أي بما لنا من باهر العظمة ونافذ الكلمة. ولما كان توسط الملك خفياً. لم يعده فأسقط حرف الغاية إفهاماً لأنه في الحقيقة بلا واسطة بعد أن أثبت وساطته أول السورة فقال مقروناً بالأمر بالعبادة إشارة إلى بداية الحال، فلما حصل التمكن فصار الكتاب خلقاً له صلى الله عليه وسلم وصار ظهوره فيه هادياً لغيره، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال: { عليك } أي خاصة لا على غيرك من أهل هذا الزمان، لأنك عندنا الخالص لنا دون أهل القريتين ودون أهل الأرض كلهم، لم يكن لشيء دوننا فيك حظ { الكتاب } الجامع لكل خير لكونه في غاية الكمال بما دل عليه "ال" { للناس } عامة لأن رسالتك عامة { بالحق } مصاحباً له، لا يقدر الخلق على أن يزيحوا معنى من معانيه عن قصده، ولا لفظاً من ألفاظه عن سبيله وحده، بل هو معجز في معانيه - حاضرة كانت أو غائبه - ونظومه، وألفاظه وأسماء سوره وآياته وجميع رسومه، فلا بد من إتيان ما فيه من وعد ووعيد.
ولما تسبب عن علم ذلك وجوب المبادرة إلى الإذعان له لفوز الدارين، حسن جداً قوله تعالى تسلية له صلى الله عليه وسلم لعظيم ما له من الشفقة عليهم وتهديداً لهم: { فمن اهتدى } أي طاوع الهادي { فلنفسه } أي فاهتداؤه خاص نفعه بها ليس له فيه إلا أجر التسبب { ومن ضل } أي وقع منه ضلال بمخالفته لداعي الفطرة ثم داعي الرسالة عن علم وتعمد، أو إهمال للنظر وتهاون. ولما كان ربما وقع في وهم أنه يحلق الداعي بعد البيان ومن إثم الضال، وكان السياق لتهديد الضالين. زاد في التأكيد فقال: { فإنما يضل عليها } أي ليس عليك شيء من ضلاله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ولما هدى السياق إلى أن التقدير: فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى، عطف عليه قوله: { وما أنت } أي في هذا الحال، ولمزيد العناية بنفي القهر أداة الاستعلاء فقال: { عليهم بوكيل * } لتحفظهم عن الضلال، فإن الرسالة إليهم لإقامة الحجة لا لقدرة الرسول على هدايتهم ولا لعجز المرسل عن ذلك.