التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً
١٣٧
بَشِّرِ ٱلْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٣٨
ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً
١٣٩
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً
١٤٠
ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
١٤١
-النساء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لتماديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً، وصوّره بأقبح صورة، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال: { إن الذين ءامنوا } أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى { ثم كفروا } أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم { ثم ءامنوا } أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج { ثم كفروا } أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه { ثم ازدادوا } أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت { كفراً لم يكن الله } أي الذي له صفات الكمال { ليغفر لهم } أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به { ولا ليهديهم سبيلاً * } أي من السبل الموصلة إلى المقصود.
ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق، بعضها حقيقة وبعضها مجازاً، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم: { بشر المنافقين } فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف { بأن لهم عذاباً أليماً * } ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى: { الذين يتخذون الكافرين } أي المجاهرين بالكفر { أولياء } أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله: { من دون المؤمنين } أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله: { أيبتغون } أي المنافقون يتطلبون، تطلباً عظيماً { عندهم } أي الكافرين { العزة } فكأنه قال: طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم.
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله: { فإن العزة لله } أي الذي لا كفوء له { جميعاً * } أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [النساء: 44] المختتمة بقوله: { { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } [النساء: 45] { وقد } أي يتخذونهم والحال أنه قد { نزل عليكم } أي أيتها الأمة، الصادقين منكم والمنافقين { في الكتاب } أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً، لأنهم لا ينفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم في حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر، وذلك هو المراد من قوله: { أنْ } أي إنه { إذا سمعتم آيات الله } أي ذي الجلال والإكرام.
ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول: { يكفر بها } أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم { ويستهزأ بها } أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به { فلا تقعدوا معهم } أي الذين يفعلون ذلك بها { حتى يخوضوا } وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال { في حديث غيره } فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم.
ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم، فالمجالس من غير نكير راض، فلهذا علل بقوله: { إنكم إذاً } أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك { مثلهم } أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة: { إن الله } أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته { جامع }.
ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله: { المنافقين } أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر { والكافرين } أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه { في جهنم } التي هي سجن الملك { جميعاً } كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصي ومجالسه بالخلطة من غير إنكار؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال: { الذين يتربصون بكم } أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم { فإن كان لكم فتح } أي ظهور وعز وظفر، وقال: { من الله } أي الذي له العظمة كلها - تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه { قالوا } أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون { ألم نكن معكم } أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من أقوالنا فأشركونا في فتحكم { وإن كان للكافرين } أي المجاهرين، وقال: { نصيب } تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح { قالوا } للكافرين ليشركوهم في نصيبهم { ألم نستحوذ عليكم } أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن، من قولهم: حاذه، أي حاطه وحافظ عليه { ونمنعكم من المؤمنين } أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان.
ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله: { فالله } أي بما له من جميع صفات العظمة { يحكم بينكم } أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرون.
ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال: { يوم القيامة } ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال: { ولن يجعل الله } عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة { للكافرين } أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين { على المؤمنين } أي كلهم { سبيلاً * } أي بوجه في دنيا ولا آخرة، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول: يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر، المتمنون لأعدائه النصر - وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله -! ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه! وما أغلظ أكبادكم! ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا، فقال معاللاً لمنعهم السبيل.