التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٢
غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ
٤
-غافر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

{ حـمۤ * } أي هذه حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي خصه بها الرحمن الرحيم الحميد المجيد مما له من صفة الكمال.
لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال: { تنزيل الكتاب } أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة، والتدريب للألباب السائرة في جو المعاني والطائرة { من الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال. ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال: { العزيز العليم * }.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل } ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم
{ { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر: 3] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره، فقال الله تعالى { أليس الله بكاف عبده } - إلى قوله: { { أليس الله بعزيز ذي انتقام } [الزمر: 37] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال { { قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله إنْ أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } [الزمر: 38] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال { قل لله الشفاعة جميعاً } [الزمر: 44] { قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة } { أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر } { الله خالق كل شيء } { له مقاليد السماوات والأرض } ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } ثم قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ثم اتبع تعالى - ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: { حـمۤ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهاً على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، مع قهره للكل في الدارين معاً، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره، ثم قال تعالى { غافر الذنب وقابل التوب } تأنيساً لمن استجاب بحمده، وأناب بلطفه، وجرياً على حكم الرحمة وتغليبها، ثم قال { شديد العقاب ذي الطول } ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء، واكتنف قوله { شديد العقاب } بقوله { غافر الذنب وقابل التوب } وقوله { ذي الطول } وأشار سبحانه بقوله - { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } - إلى قوله قبل { وأورثنا الأرض } وكأنه في تقدير: إذا كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم، وجدالهم في الآيات كجدالهم، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب، وسبق لهم في أم الكتاب - انتهى.
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله: { غافر الذنب } أي بتوبة وغير توبة إن شاء، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة. قال السمين: نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن الكوفيون شيئاً.
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال: { وقابل التوب } وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة. ولما كان الاقتصار على الترغيب بما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في
{ { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } [النحل: 61] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ: { شديد العقاب * } على أن تنكيره وإبهامه - كما قال الزمخشري - للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها.
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: { ذي الطول } أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: { لا إله إلا هو } ولما أنتج هذا كله تفرده، أنتج قطعاً قوله: { إليه } أي وحده { المصير * } أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده.
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه: { ما يجادل } أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده { في آيات } وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال: { الله } أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها، أو غيره بالتشكيك له، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى { إلا الذين كفروا } أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم.
ولما ثبت أن الحشر لا بد منه، وأن الله تعالى قادر كل قدرة لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال، تسبب عن ذلك قوله: { فلا يغررك تقلبهم } أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم { في البلاد * } فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق، أو أن أحداً يحميهم علينا، فلا بد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله.