التفاسير

< >
عرض

فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٣٦
وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ
٣٧
وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣٨
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ
٣٩
-الشورى

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما علم أن جميع النعم من الغيث وأثاره، ومن نشر الدواب براً وبحراً بمعرض من الزوال وهو عظيم التقلبات هائل الأحوال سبب عنه قوله محقراً لدنياهم وما فيها من الزهرة بسرعة الذبول والزوال، والأفوال والارتحال، ولهم بأنها مع ما ذكر لا قدرة لهم على شيء منها إلا يموت يمن عليهم بها، وأما هم فقوم ضعفاء لا قدرة لهم على شيء وليس لهم من أنفسهم إلا العجز، فلو عقلوا لعلموا ولو علموا لعملوا عمل العبيد، وأطاعوا القوي الشديد: { فما أوتيتم } أي أيها الناس { من شيء } أي من النعم الظاهرة، وأجاب "ما" الشرطية بقوله: { فمتاع الحياة الدنيا } أي القريبة الدنيئة لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته، وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله { وما } أي والذي، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى أعظم منها بذكر الاسم الجامع للترغيب في ذكر آثار الأوصاف الجمالية والترهيب من آثار النعوت الجلالية فقال: { عند الله } أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين { خير } أي في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعها. ولما كانت النعم الدنيوية قد تصحب الإنسان طول عمره فتسبب بذلك إلى البقاء قال: { وأبقى } أي من الدنيوية لأنه لا بد من نزعها منه بالموت، ولذلك قيد بالحياة فلا تؤثر الفاني على خساسته على الباقي مع نفاسته.
ولما بين ما لها من النفاسة ترغيباً فيها، بين من هي له فقال: { للذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة { وعلى } أي والحال أنهم صدقوها بأنهم على، ولفت القول إلى صفة الإحسان لأنها نسب شيء للمتوكل، وأحكم الأمر بالإضافة إشارة إلى "إنه إحسان" هو في غاية المناسبة لحالهم فقال: { ربهم } أي الذي لم يروا إحساناً قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص له { يتوكلون } أي يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم فيه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلاً لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي، والتعبير بأداة الاستعلاء تمثيل للإسناد والتفويض إليه بالحمل عليه لأن الحمل أبين في الراحة، وأظهر في البعد من الهم والمشقة، ولعل التعبير بالمضارع للتخفيف في أمر التوكل بالرضى بتجديده كلما تجدد مهم، ومن كان كذلك كان الله كافيه كل ملم، فيشاركون أهل الدنيا في نيل نعمها ويفارقونهم في أن ربهم سبحانه يجعلها على وجه لا حساب عليهم فيها، بل ولهم فيها الأجور الموجبة للنعمة والحبور، وفي أنه يجعلها كافية لمهماتهم وسادّة لخلاتهم، ويزيدهم الباقيات الصالحات التي يتسبب عنها نعيم الآخرة بعد راحة الدنيا.
ولما كان كل من الإيمان والتوكل امراً باطناً فكان لا بد من دلائله من ظواهر الأعمال، وكانت تخليات من الرذائل وتحليات بالفضائل وكانت التخليات لكونها درء للمفاسد مقدمة على التحليات التي هي جلب للمصالح قال عاطفاً على { الذين }: { والذين يجتبنون } أي يكلفون أنفسهم أن يجابوا { كبائر الإثم } أي جنس الفعال الكبار التي لا توجد إلا ضمن أفرادها ويحصل بها دنس للنفس، فيوجب عقاباً لها مع الجسم، وعطف على { كبائر } قوله: { والفواحش } وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع التي هي آيات الله الثلاث التي نصبها حجة على عباده وله الحجة البالغة فاستعظم الناس أمرها ولو أنها صغائر لدلالتها على الإخلال بالمروءة كسرقة لقمة والإقرار على المعصية من شيخ جليل القدر لمن لا يخشاه ولا يرجوه، وقرأ حمزة والكسائي: كبير، وهو للجنس، فهو بمعنى قراءة الجمع أو هي أبلغ لشمولها المفرد. ولما ذكر ما قد تقود إليه المطامع دون حمل الغضب الصارع قال منبهاً على عظمته معبراً بأداة التحقق دلالة على أنه لا به منه توطيناً للنفس عليه معلقاً بفعل الغفر: { وإذا } وأكد بقوله: { ما } وقدم الغضب إشارة إلى الاهتمام بإطفاء جمره وتبريد حره فقال: { غضبوا } أي غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة، وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال: { هم يغفرون } أي الإحصاء والإخفاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي محواً للذنب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر، والكبر لا يصلح لغير الإله وذلك لأنه لا يغيب أحلامهم عند اشتداد الأمر ما يغيب أحلام غيرهم من طيش الجهل وسفاهة الرأي، فدل ذلك على أن الغفر دون غضب لا يعد بالنسبة إلى الغفر معه، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله، وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا أذا قدروا عفوا.
ولما أتم ما منه التحلي، أتبعه ما به التخلي، وذكر أوصافاً أربعة هي قواعد النصفة ما انبنى عليها قط ربعها إلا كان الفاعلون لها كالجسد الواحد لا تأخذهم نازلة في الدنيا ولا في الآخرة فقال: { والذين استجابوا } أي أوجدوا الإجابة بمالهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد { لربهم } أي الداعي لهم إلى إجابته إحسانه إليهم إيجاداً من شدة حمل أنفسهم عليه يطلبونه من أنفسهم طلباً عظيماً صادقاً لم يبق معه لأحدهم نفس ولا بقية من وهم ولا رسم إلا على موافقة رضاه سبحانه لأنهم يعلمون أنه ما دعاهم إليه وهو مربيهم لصلاحهم وسعدهم وفلاحهم، لأنه محيط العلم شديد الرحمة لا يتهم بوجه من الوجوه.
ولما كان هذا عاماً لكل خير دعا إليه سبحانه، خص أعظم عبادات البدن، وزاد في عظمتها بالتعبير بالإقامة فقال: { وأقاموا } أي بما لهم من القوة { الصلاة } فأفهم ذلك مع اللام أنهم أوجدوا صورتها محمولة بروحها على وجه يقتضي ثبوتها دائماً. ولما كانت الاستجابة توجب للاتحاد القلوب بالإيمان الموجب للاتحاد في الأقوال والأفعال، والصلاة توجب الاتحاد بالأبدان، ذكر الاتحاد بالأقوال الناشىء عنه عند أولي الكمال الاتحاد في الأفعال، فقال معبراً بالاسمية حثاً على أن جعلوا ذلك لهم خلقاً ثابتاً لا ينفك: { وأمرهم } أي كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير { شورى } أي يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين مما لهم من قوة الباطن وصفائه في الإخلاص والنصح، من الشور وهو العرض والإظهار { بينهم } أي بحيث إنهم لا فرق في حال المشاورة بين كبير منهم وصغير بل كل منها يصغي إلى كلام الآخر وينظر في صحته وسقمه بتنزيله على أصول الشرع وفروعه، فلا يستبدل أحد منهم برأي لدوام اتهامه لرأيه لتحققه نقصه بما له من غزارة العلم وصفاء الفهم ولا يعجلون في شيء بل صار التأبي لهم خلقاً، وسوق المشورة هذا السياق دال على عظيم جدواها وجلالة نفعها قال الحسنرحمه الله : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم - على أنه روى الطبراني في الصغير والأوسط لكن بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد" , وروى في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أمراً فشاور فيه أمرأ مسلماً وفقه الله لأرشد أمره" .
ولما كانت المواساة بالأموال بعد الاتحاد في الأقوال والافتاق في الأفعال أعظم جامع على محاسن الخلال، واظهر دال على ما ادعى من الاتحاد في الحال والمآل قال مسهلاً عليهم أمرها بأنه لا مدخل لهم في الحقيقة في تحصيلها راضياً منهم باليسير منها: { ومما } ولفت القول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما يتعارفونه بينهم من أنه لا مطمع في التقرب من العظماء إلا بالهدايا فقال: { رزقناهم } أي بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة { ينفقون * } أي يديمون الإنفاق كرماً منهم وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله سبحانه وتعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين، وذلك الإنفاق على حسب ما حددناه لهم فواسوا بالمشورة في فضل عقولهم وبالإنفاق في فضل أموالهم تقوى منهم ومراقبة لله لا شهوة نفس.
ولما كان في العقوبة مصلحة ومفسدة فندب سبحانه إلى المغفرة تقديماً لدرء المفسدة لأن الإنسان لعدم علمه بالقلوب لا يصح له بوجه أن يعاقب بمجرد الغضب لأنه قد يخطئ فيعاقب من أغضبه، وهو شريف الذات كريم الطبع على الهمة أبي النفس، ما وقع منه الذنب الذي أغضب إلا خطأ معفواً عنه أو كذب عليه فيه فيربي في نفسه أخته تفسد ذات البين فيجر إلى خراب كبير، وكانت إدامة الغفر جالبة للفساد مجرئة على العناد، وكان البغي هو التمادي في السوء محققاً لقصد الذنب مجوزاً للإقدام على الانتقام، وكان الانتصار من الفجار ربما أحوج مع قوة الجنان إلى إنفاق المال، عقب الإنفاق بمدح الانتصار بقوله: { والذين } وذكر أداة التحقق إشارة إلى أن شرطها لا بد من وقوعه بالفعل أو بالقوة فقال ناصباً بفعل الانتصار مقدماً لما من شأن النفس الاهتمام بدفعه لعدم صبرها عليه: { إذا أصابهم } أي وقع بهم وأثر فيهم { البغي } وهو التمادي على الرمي بالشر { هم } أي بأنفسهم خاصة لما لهم من قوة الجنان والأركان المعلمة بأن ما تقدم من غفرانه ما كان إلا لعلو شأنهم لا لهوانهم { ينتصرون * } أي يوقعون بالعلاج بما أعطاهم الله من سعة العقل وشدة البطش وقوة القلب النصر لأنفسهم في محله على ما ينبغي من زجر الباغي عن معاودتهم وعن الاجتراء على غيرهم مكررين لذلك كلما كرر لهم فيكون ذلك من إصلاح ذات البين، ليسوا بعاجزين ولا في أمر دينهم متوانين، والتعبير في هذه الأفعال بالإسناد إلى الجمع إشارة إلى أنه لا يكون تمام التمكن الرادع إلا مع الاجتماع، ومن كان فيها مفرداً كان همه طويلاً وبثه جليلاً، قال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق.