التفاسير

< >
عرض

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ
٤٥
وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ
٤٦
ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ
٤٧
فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ
٤٨
-الشورى

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أثبت رؤيتهم العذاب، أثبت دنوهم من محله وبين حالهم في ذلك الدنو فقال: { وتراهم } أي يا أكمل الخلق ويا أيها المتشوف إلى العلم بحالهم بعينك حال كونهم { يعرضون } أي يجدد عرضهم ويكرر، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم { عليها } أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم { خاشعين } أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم.
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال: { من الذل } لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه.
ولما كان الذل ألواناً، صوره بأقبح صورة فقال معبراً بلفظ النظر الذي هو مماسة البصر لظاهر المبصر: { ينظرون } أي يبتدئ نظرهم المتكرر { من طرف } أي تحريك للأجفان { خفي } يعرف فيه الذل لأنه لا يكاد من عدم التحديق يظن أنه يطرف لأنهم يسارقون النظر مسارقة كما ترى الإنسان ينظر إلى المكاره، والصبور ينظر إلى السيف الذي جرد له فهو بحيث لا يحقق منظوراً إليه، بل ربما تخيله بأعظم مما هو عليه. ولما صور حالهم وكان من أفظع الأشياء وأقطعها للقلوب شماتة العدو، قال مبشراً لجميع أصناف أهل الإيمان ورادعاً لأهل الكفران: { وقال } أي في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعبير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع { الذين آمنوا } أي أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها عند رؤيتهم إياهم على هذا الحال، مؤكدين لتحقيق مقالهم عند من قضى بضلالهم والإعلام بما لهم من السرور بصلاح حالهم، والحمد لمن من عليهم بحس منقلبهم ومآلهم، ويجوز أن يكون قولهم هذا في الدنيا لما غلب على قلوبهم من الهيبة عندما تحققوا هذه المواعظ: { إن الخاسرين } أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة { الذين خسروا أنفسهم } بما استغرقها من العذاب { وأهليهم } بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان.
ولما أخبر بخسارتهم بين ظرفها تهويلاً لها، ويجوز أن يكون ظرفاً لهذا القول وهو أردع لمن له مسكة لأن من جوز أن يخسر وأن عدوه يطلع على خسارته ويظهر الشماتة به، كان جديراً بأن يترك السبب الحامل على الخسارة فقال: { يوم القيامة } أي الذي هو يوم فوت التدراك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء. ولما كان هذا نهاية الخسارة، أنتج قوله منادياً ذاكراً سبب هذه الخسارة المعينة مؤكداً لأجل إنكار الظالمين لها وإن كان من تتمه قول المؤمنين هناك، فالتأكيد مع ما يفيد الإخبار به في هذه الدار من ردع المنكر للإعلام بما لهم من اللذة فيما رأوا من سوء حالهم وتقطع أوصالهم ورجائهم من أن ينقطع عنهم ذلك كما ينقطع عن عصاة المؤمنين: { ألا إن الظالمين } أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها { في عذاب مقيم * } لا يزايلهم أصلاً، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء.
ولما كانت العادة جارية بأن من وقع في ورطة وجد في الأغلب ولياً ينصره لأو سبيلاً ينجيه، قال عاطفاً على { وتراهم } أو "ألا إن": { وما كان } أي صح ووجد { لهم } وأعرق في النفي فقال: { من أولياء } فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب الأولى.
ولما كان من يفعل فعل القريب لا يفيد إلا إن كان قادراً على النصرة قال: { ينصرونهم } أي يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم مما جرى عليهم من العذاب. ولما كان الله تعالى يصح منه أن يفعل ما يشاء بواسطة أو غيرها قال: { من دون الله } أي ما صح ذلك وما استقام بوجه بغيره، وأما هو فيصح ذلك منه ويستقيم له لإحاطته بأوصاف الكمال, ولو أراد لفعل, ولما بين ما لهم بين ما لمن اتصف بوصفهم كائناً من كان، فقال بناء على نحو: لأنه هو الذي أضلهم: { ومن يضلل الله } أي يوجد ضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان له أو بعدم التوفيق بعد البيان: { فما له } بسبب إضلال له جميع صفات الجلال والإكرام، وأعرق في النفي بقوله: { من سبيل * } أي تنجية من الضلال ولا مما تسبب عنه من العذب. ولما كان هذا، أنتج قطعاً قوله: { استجيبوا } أي اطلبوا الإجابة وأوجدوها، ولفت القول إلى الوصف الإحساني تذكيراً بما يحث على الوفاق، ويخجل من الخلاف والشقاق، فقال: { لربكم } الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه فيما دعاكم إليه برسوله صلى الله عليه وسلم من الوفاء بعهده في أمره ونهيه، ولا تكونوا ممن ترك ذلك فتكونوا ممن علم أنه أضله فانسد عليه السبيل.
ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة، قال مشيراً بالجار إلى أنه يعتد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت: { من قبل أن يأتي يوم } أي يكون فيه ما لا يمكن معه فلاح؛ ثم وصفه بقوله لافتاً إلى الاسم الأعظم الجامع لأوصاف الإحسان والإنعام على المطيعين والقهر والانتقام من العاصين: { لا مرد } أي لا رد ولا موضع رد ولا زمان رد { له } كائن { من الله } أي الذي له جميع العظمة وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره، ومتى عدم ذاك أنتج قوله: { ما لكم } وأعرق في النفي بقوله: { من ملجأ يومئذ } أي مكان تلجؤون إليه في ذلك اليوم وحصن تتحصنون فيه من شيء تكرهونه، وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال: { وما لكم من نكير * } أي من إنكار يمكنكم به من النجاة لأن الحفظة يشهدون عليكم فإن صدقتموهم وإلا شهدت عليكم أعضاؤكم وجلودكم، ولا لكم من أحد ينكر شيئاً مما تتجاوزون به ليخلصكم منه.
ولما أنهى ما قدمه في قوله { شرع لكم من الدين } نهايته، ودل عليه وعلى كل ما قادته الحكمة في حيزه حتى لم يبق لأحد شبهة في شيء من الأشياء، كان ذلك سبباً لتهديدهم على الإعراض عنه وتسلية رسولهم صلى الله عليه وسلم فقال معرضاً عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب: { فإن أعرضوا } أي عن إجابة هذا الدعاء الذي وجبت إجابته والشرع الذي وضحت وصحت طريقته بما تأيد به من الحجج، ولفت القول إلى مظهر العظمة دفعاً لما قد يوهم الإرسال من الحاجة فقال: { فما أرسلناك } مع ما لنا من العظمة { عليهم حفيظاً } أي نقهرهم على امتثال ما أرسلناك به. ولما كان التقدير. فأعرض عن غير إبلاغهم لأنا إنما أرسلناك مبلغاً، وضع موضعه: { إن } أي ما { عليك إلا البلاغ } لما أرسلناك به، وأما الهداية والإضلال فإلينا.
ولما ضمن لهذه الآية ما أرسله له، أتبعه ما جبل عليه الإنسان بياناً لأنه صلى الله عليه وسلم لا حكم له على الطباع وأن الذي عليه إنما هو الإسماع لا السماع، فقال عاطفاً على ما قبل آية الشرع من قوله { يبسط الرزق لمن يشاء } حاكياً له في أسلوب العظمة تنبيهاً على أنه الذي حكم عليهم بالإعراض عما هو جدير بأن لا يعرض عنه عاقل، وإيماء إلى أن الإنسان لغلبه جهله وقلة عقله يجترىء بأدنى تأنيس على من تجسد الجبال لعظمته وتندك الشوامخ من هيبته: { وإنا إذا أذقنا } بعظمتنا التي لا يمكن مخالفتها. ولما كان من يفرح بالنعمة عند انفراده بها مذموماً، عبر بالجنس الصالح للواحد فما فوقه تنبيهاً على أن طبع الإنسان عدم الاهتمام بشدائد الإخوان إلا من أقامه الله في مقام الإحسان فقال: { الإنسان } أي بما جبلناه عليه من النقص بالعجلة وعدم التمالك { منا رحمة } أي نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى ونحو ذلك، وأفرد الضمير إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك، وكذا عبر بالإنسان فقال: { فرح بها } أي ولو أن أهل الأرض كلهم في نقمة وبؤس وعمى فأخرجه الفرح عن تأمل ما ينفعه ليشكر، فكان ذلك لذلك كافراً للنعمة لأنه أبدل الشكر بالفرح والكفر فتوصل بالعافية إلى المخالفة، فأوقع نفسه في أعظم البلاء.
ولما دل باداة التحقق على أن النعمة هي الأصل لعموم رحمته، وأنها سبقت غضبه، دل على أن السيئة قليلة بالنسبة إليها بأداة الشك والمضارع فقال: { وإن } ولما كانت المشاركة في الشدائد تهون المصائب، فكان من يزيد غمه بخصوص مصيبته عند العموم مذموماً، نبه على نقص الإنسان بذلك بالجمع فقال: { تصبهم سيئة } أي نقمة وبلاء وشدة. ولما كانت الرحمة فضلاً منه، أعلمهم أن السيئة مسببة عنهم فقال: { بما قدمت أيديهم } وعبر باليد عن الجملة لأن أكثر العمل بها. ولما كان الجواب على نهج الأول: حزنوا فكفروا، وعدل عنه إلى ما يدل على أن جنس الإنسان موضع الكفران، ولما كانوا يدعون الشكر وينكرون الكفر، أكد قوله وسبب عن تلك الإصابة والإذاقة معاً إشارة إلى أنه لا أصل له غيرهما، فقال مظهراً موضع الضمير لينص على الحكم على الجنس من حيث هو: { فإن الإنسان } أي الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب مسه بضر { كفور * } أي بليغ الستر للنعم نساء له، ينسى بأول صدمة من النقمة جميع ما تقدم له من النعم، ولا يعرف إلا الحالة الراهنة، فإن كان في نعمه أشر وبطر، وإن كان في نقمه أيس وقنط، وهذا حال الجنس من حيث هو، ومن وفقه الله جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" . وليس ذلك إلا للمؤمن، والآية من الاحتباك: قكر الفرح أولاً دالاً على الحزن ثانياً، وذكر الكفران ثانياً دال على حذفه أولاً.