التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ
٨٤
وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٥
وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٨٦
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٨٧
وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٨٨
فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
٨٩
-الزخرف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه، وكان ذلك غير ملازم للألوهية، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره: تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى { سبحان }: { وهو الذي } هو { في السماء إله } أي معبود لا يشرك به شيء { وفي الأرض إله } توجه الرغباب إليه في جميع الأحوال، ويخلص له في جميع أوقات الأضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في مثل هذا الاستحقاق، فعبادة غيره باطلة، قال في القاموس: أله - أي بالفتح - إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه: لفظ الجلالة - وأصله: إله بمعنى معبود وكل ما اتخذ معبوداً فهو إله عند متخذه، وأله كفرح: تحير، فقد علم من هذا جواز تعلق الجار بإله.
ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محلها بحيث لا يتطرق إليه فساد، ولا يضرها إفساد مفسد، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال: { وهو الحكيم } أي البليغ الحكمة، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم من قوام من أمر المحكوم عليه في عاجلته وآجلته، ولما كانت الحكمة العلم بما لأجله وجب الحكم قال تعالى: { العليم } أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان بحيث لا يخاف وعيده، فلا يخوض ولا يعلب عبده، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته.
ولما نزه ذاته الأقدس وأثبت لنفسه استحقاق الإلهية بالإجماع من خلقه بما ركزه في فطرهم وهداهم إليه بعقولهم، أتبع ذلك أدلة أخرى بإثبات كل كمال بما تسعه العقول وبما لا تسعه مصرحاً بالملك فقال: { وتبارك } أي ثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال مع التيمن والبركة وكل كمال، فلا تشبيه له حتى يدعي أنه ولد له أو شريك، ثم وصفه بما يبين تباركه واختصاصه بالإلهية فقال: { الذي له ملك السماوات } أي كلها { والأرض } كذلك { وما بينهما } وبين كل اثنين منها، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار.
لما ثبت اختصاصه بالملك وكان الملك لا يكون إلا عالماً بملكه وكان ربما ادعى مدع وتكذب معاند في الملك أو العلم، قطع الأطماع بقوله: { وعنده } أي وحده { علم الساعة } سائقاً له مساق ما هو معلوم الكون، لا مجال للخلاف فيه إشارة إلى ما عليها من الأدلة القطعية المركوزة في الفطرة الأولى فكيف يما يؤدي إليه الفكر من الذكر المنبه عليه السمع، ولأن من ثبت اختصاصه بالملك وجب قبول أخباره لذاته، وخوفاً من سطواته، ورجاء في بركاته { وإليه } أي وحده لا إلى غيره بعد قيام الساعة { ترجعون } بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقراءة الجماعة وهم من عدا ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن يعقوب بالخطاب أشد تهديداً من قراءة الباقين بالغيب، وأدل على تناهي الغضب على من لا يقبل إليه بالمتاب بعد رفع كل ما يمكن أن يتسبب عنه ارتياب.
ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير: فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره، عطف عليه قوله: { ولا يملك } أي بوجه من الوجوه في وقت ما { الذين يدعون } أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى: { من دونه } من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم { الشفاعة } أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم { إلا من شهد } أي منهم { بالحق }. أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى.
ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى الله، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك، فكأنه لا علم لهم قال: { وهم } أو والحال أن من شهد { يعلمون } أي على بصيرة مما شهدوا به، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشكروا، أو يكون المعنى: وهم من أهل العلم، والأصنام ليسوا كذلك، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين على كل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله، قال الرازي في اللوامع: وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد، وقد يكون مخالطاً للعدد، وقد يكون ملازماً للعدد، والله تعالى منزه عن هذه الواحدات - انتهى. ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات، فإذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذلك يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم، وذلك ينتج الانسلاخ من العلم المؤهل للشفاعة، وقال ابن الجوزي: وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به.
ولما كان التقدير لتقرير وجود إلهيته في الأرض بالاجتماع: فلئن سألتهم من ينجيهم في وقت كروبهم ليقولن: الله، ليس لمن ندعوه من دونه هناك فعل، فقال عطفاً عليه: { ولئن سألتهم } أي الكفار { من خلقهم } أي العابدين والمعبودين معاً، أجابوا بما يدل على عمى القلب الحقيقي المجبول عليه والمطبوع بطابع الحكمة الإلهية عليه، ولم يصدقوا في جواب مثله بقوله: { إذ سألتهم }: { ليقولن الله } الذي له جميع صفات الكمال هو الذي خلق الكل ليس لمن يدعوه منه شيء، ولذلك سبب عنه قوله: { فأنّى } أي كيف ومن أي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر { يؤفكون * } أي يقلبون عن وجوه الأمور إلى أقفائها من قالب ما كائناً من كان، فيدعون أن له شريكاً تارة بالولدية، وتارة بغيرها، مع ما ركز في فطرهم مما ثبت به أنه لا شريك له لأن له الخلق والأمر كله.
ولما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة، وأقام حجج الحق، ونصب براهين الصدق، وأُبت ما ينفعهم، وحذرهم ما يضرهم، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره { لقد جئناكم بالحق } ثم حصر أمرهم في رد ذلك إن ردوه إلى قسمين في حالين: حال مجاهرة وحال مماكرة، وأخبر أنه لا نجاة لهم على حالة منهما، وأخبر أن رسله تعالى يكتبون جميع أمورهم، ذلك مع غناه عن ذلك لعلمه بما يكتبونه من ذلك وغيره مما لا يطلعون، عليه، فكان ذلك فخراً عظيماً ملاحماً أشد الملاحمة لما قدمه من شبهتهم في ادعاء الولد فأكد إبطالها وحقق زوالها، وختم بالتعجيب من حالهم في تركهم وجوه الأمور واتباعهم أقفائها، وكان من جملة ذلك عملهم عمل من يظن أن الله سبحانه لا يسمع قولهم الموجب لأخذهم وقول رسوله: الموجب لنصره، عطف على ما مضى من إنكارهم عليهم عدم سماعه لقولهم، ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان إلا قوة أوقع في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً، وصار يشكو أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر "قال" المشترك لفظه مع لفظ الماضي المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد، لأنه صار حالاً من الأحوال، ووصل به الضمير من غير تقدم ذكر، إشارة إلى أن ضميره قد امتلأ بتلك الشفقة عليهم والرحمة لهم، فقال تعالى عطفاً على سرهم المقدر بعد { بلى } في قوله تعالى: { إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } أو يكون معطوفاً على محل الساعة أي "ويعلم قيله" قاله الزجاج، وعدل في هذا الوجه - وهو قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ { الساعة }، وقرئ شاذاً بالرفع، ووجهه أن الواو للحال، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق والحال أن قيله كذا في شكايتهم، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه: { وقيله } الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال، الدال على وجه قيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها، والتعبير بقوله: { يا رب } دال على ذلك بما تفيده "يا" الدالة على بعد، أو تقديره، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة الاختصاص والولاية، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء.
ولما كان الإرسال إليهم - والمرسل قادر - مقتضياً لإيمانهم، أكد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه: { إن هٰؤلاء } لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول: قومي، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة الأصل إشارة إلى أن استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً { قوم } أي أقوياء على الباطل { لا يؤمنون } أي لا يتجدد منهم هذا الفعل.
ولما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة، وذلك كله ببركته صلى الله عليه وسلم في سياق ظاهره التهديد وباطنه - بالنسبة إلى علمه - البشارة بالتشديد فقال: { فاصفح عنهم } أي اعف عمن أعرض منهم صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ { وقل } أي لهم: { سلام } أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم { فسوف يعلمون } بوعد لا خلف فيه، فهذا ظاهره تهديد كبير، وقراءة المدنيين وابن عامر بالخطاب أشد تهديداً، وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة لأنهم يصيرون علماء فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل - بما أفهمه أول السورة - فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل، فللّه دره من آخر عانق الأول، ومقطع رد إلى المطلع تنزل، يا ناظم اللآلئ! أين تذهب عن هذا البناء العالي، وتغفل عن هذا الجوهر الرخص الغالي، وتضل عن هذا الضياء اللامع الملألىء، ثم أعلاه فأنزله، وأغلاه بدر المعاني وفضله.