التفاسير

< >
عرض

كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٢٥
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٢٦
وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ
٢٧
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ
٢٨
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ
٢٩
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
٣٠
مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ
٣١
-الدخان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أرشد السياق ولا بد إلى تقدير: فأسرى موسى بعباد الله كما أمره الله فتعبهم آل فرعون كما أخبر سبحانه، ففتح الله البحر بباهر قدرته وأمسك ماءه كالجدران بقاهر عظمته وتركه بعد طلوعهم منه على حالته فتبعهم عباد الشيطان بما فاض عليهم من شقاوته فأغرقهم الله بعزته لم يفلت منهم أحد، عبر سبحانه عن هذا كله بقوله على طريق الاستئناف: { كم تركوا } أي الذي سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا { من جنات } أي بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يسر المهموم ويستر الهموم، ودل على كرم الأرض بقوله: { وعيون وزروع } أي مما هو دون الأشجار. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بمنازل ومناظر في الجنان وغيرها فقال: { ومقام كريم * } أي مجلس شريف هو أهل لأن يقيم الإنسان فيه، لأن النهاية فيما يرضيه.
ولما كان ذلك قد يكون بتعب صاحبة فيه، دل على أنه كان بكد غيرهم وهم في غاية الترف، وهذا هو الذي حملهم على اتباع من كان يكفيهم ذلك حتى أداهم إلى الغرق قال: { ونعمة } هي بفتح النون اسم للتنعم بمعنى الترفه والعيش اللين الرغد، وأما التي بالكسر فهي الإنعام { كانوا فيها } أي دائماً { فاكهين * } أي فعلهم في عيشهم فعل المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه.
ولما كان هذا أمراً عظيماً لا يكاد يصدق أن يكون لأحد، دل على عظمه وحصوله لهم بقوله: { كذلك } أي الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه، فلا يغترن أحد بما ابتليناه به من النعم لئلا يصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم. ولما أفهم سوق الكلام هكذا إغراقهم كلهم، زاده إيضاحاً بالتعبير بالإرث الذي حقيقته الأخذ عن الميت أخذاً لا منازع فيه فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد اسم الإشارة: { وأورثناها } أي تلك الأمور العظيمة { قوماً } أي ناساً ذوي قوة في في القيام على ما يحاولونه، وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقه بقوله: { آخرين * } قال ابن برجان، وقال في سورة الظلمة: "وعيون وكنوز" مكان "وزروع" لما كان المعهود من الزرع الحصد في أقرب المدة أورث زروعها وجناتها وما فيها من مقام كريم قوماً بآل فرعون فإنهم أهلكوا ولا بني إسرائيل فإنهم قد عبروا البحر، ولما توطد ملكهم في الأرض المقدسة اتصل بمصر، فورثوا الأرض بكنوزها وأموالها ونعمتها ومقامها الكريم - انتهى.
ولما كان الإهلاك يوجب أسفاً على المهلكين ولو من بعض الناس ولا سيما إذا كانوا جمعاً فكيف إذا كانوا أهل مملكة ولا سيما إذا كانوا في نهاية الرئاسة، أخبر بأنهم كانوا لهوانهم عنده سبحانه وتعالى على خلاف ذلك، فسبب عما مضى قوله: { فما بكت عليهم } استعارة لعدم الاكتراث لهم لهوانهم { السماء والأرض } وإذا لم يبك السكن فما ظنك بالساكن الذي هو بعضه، روى أبو يعلى في مسنده والترمذي في جامعه - وقال: غريب والربذي والرقاشي يضعفان في الحديث - عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من مسلم إلا وله في السماء بابان، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه" وتلا هذه الآية، وقال علي رضي الله عنه: إن المؤمن إذا مات بكى مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء.
ولما جرت العادة بأن العدو قد يستمهله عدوه في بعض الأوقات لمثل وصية وقضاء حاجة فيمهله، أخبر تتميماً لعدم الاكتراث بهم أنهم كانوا دون ذلك فقال: { وما كانوا } ولما كان هذا لكونه خيراً عنهم بعد مضيهم المقصود منه تحذير من بعدهم فقط، لم يذكر التقييد بذلك الوقت بإذن ونحوها دلالة على أن ما كانوا فيه من طويل الإمهال كان كأنه لم يكن لعظم هذا الأخذ بخلاف ما مر في في الحجر من التخويف من إنزال الملائكة عليهم، فإن تقييد عدم الإنظار بذلك الوقت لرد السامعين عن طلب إنزالهم فقال تعالى: { منظرين * } أي ممهلين عما أنزلنا بهم من المصيبة من ممهل ما لحظه فما فوقها ليتداركوا بعض ما فرطوا فيه وينظروا في شيء مما يهمهم بل كان أخذهم لسهولته علينا في أسرع من اللمح، لم يقدروا على دفاع، فنالهم عذاب الدنيا وصاروا إلى عذاب الآخرة فخسروا الدارين وما ضروا غير أنفسهم.
ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمراً باهراً لا يكاد يصدق فضلاً عن أن يكون بإهلاك أعدائهم، أكد سبحانه الإخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيهاً على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالاً وأنهم في قبضتهم فقال: { ولقد نجينا } أي بما لنا من العظمة "تنجية عظيمة" مع كونها بسبب الآيات المتفرقات كانت على التدريج { بني إسرائيل } عبدنا المخلص لنا { من العذاب المهين * } بسبب أنهم كانوا عندهم في عداد العبيد يتسخدمون الرجال والنساء بل أذل للزيادة على التصرف العبيد بالتذبيح للأبناء.
ولما تشوف السامع إلى صاحب ذلك العذاب قال مبدلاً مما قبله إفهاماً لأن فرعون نفسه كان عذاباً لإفراطه في أذاهم: { من فرعون } ثم علل ذلك بما يعرف منه صحة الوصف للعذاب فقال مؤكداً لأن حال قريش في استذلال المؤمنين حل من يكذب بأن الله أنجى بني إسرائيل على ضعفهم فهو ينجي غيرهم من الضعفاء أو يكذب أن فرعون كان قوياً { إنه كان عالياً } في جبلته العراقة في العلو { من المسرفين * } أي العريقين في مجاوزة الحدود.