ولما كان الإنسان في الدنيا يخشى كلفة النفقات، وصف ما هنالك من سعة
الخيرات فقال: { يدعون } أي يطلبون طلباً هو بغاية المسرة { فيها بكل } لا يمتنع
عليهم صنف من الأصناف ببعد مكان ولا فقد أوان، ولا غير ذلك من الشأن، وقال:
{ فاكهة } إيذاناً بأن ذلك مع سعته ليس فيها شيء لإقامة البينة وإنما هو للفتكه ومجرد
التلذذ. ولما كان التوسع في التلذذ يخشى منه غوائل جمة قال: { آمنين * } أي وهم
في غاية الأمن من كل مخوف.
ولما ذكر الأمان، وكان أخوف ما يخاف أهل الدنيا الموت، قال: { لا يذوقون
فيها } أي الجنة { الموت } أي لا يتجدد لهم أوائل استطعامه فكيف بما وراء ذلك. ولما
كان المراد نفي ذلك على وجه يحصل معه القطع بالأمن على أعلى الوجوه، وكان
الاستثناء معيار العموم، وكان من المعلوم أن ما كان في الدنيا من ذوق الموت الذي هو
معنى من المعاني قد استحال عوده، قال معللاً معلقاً على هذا المحال: { إلا الموتة }
ولما كان المعنى مع إسناد الذوق إليه لا يلبس لأن ما قبل نفخ الروح ليس مذوقاً، عبر
بقوله: { الأولى } وقد أفهم التقييد بالظرف أن النار يذاق فيها الموت، والوصف بالأولى
أن المذوق موتة ثانية، فكان كأنه قيل: لكن غير المتقين ممن كان عاصياً فيدخل النار فيذوق فيها موتة أخرى - كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ويجوز أن يجعل وصف
المتقين أعم من الراسخين وغيرهم، فيكون الحكم على المجموع، أي أن الكل لا
يذوقون، وبعضهم - وهم من أراد الله من العصاة - يذوقونه في غيرها وهو النار، ويجوز أن
تكون الموتة الأولى كانت في الجنة المجازية فلا يكون تعليقاً بمحال، وذلك أن المتقي لم
يزل فيها في الدنيا مجازاً بما له من التسبب وبما سبق من حكم الله له بها، قال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها" "وإذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" وكذا المحكوم له بما هو فيها عند الموت
وبعده بما له من التمتع بالنظر ونحوه من الأكل للشهداء وغير ذلك مما ورد في الأخبار
الصحيحة، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمه النضر رضي الله عنه
قال يوم أحد: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، ثم قاتل
حتى قتل. ثم يكون تمام ذلك النعيم بالجنة بعد البعث، قال ابن برجان: الدنيا إذا تحققت
في حق المؤمن المتقي وتتبع النظر فيها فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياهم فيها وقربه
منهم ونظره إليهم وذكرهم له وعبادتهم إياه وشغلهم به وهو معهم أينما كانوا.
ولما كان السياق للمتقين قال: { ووقاهم } أي جملة المتقين في جزاء ما اتقوه
{ عذاب الجحيم * } أي التي تقدم إصلاء الأثيم لها، وأما غير المتقين من العصاة
فيدخل الله من أراد منهم النار فيعذر كلاًّ منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون
إلى أن يأذن الله في الشفاعة فيهم فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم أهل الجنة من
ماء الحياة، روى الإمام أحمد في مسنده ومسلم في الإيمان من صحيحه وابن حبان في
الشفاعة من سننه والدرامي في صفة الجنة والنار من سننه المشهور بالمسند، وابن أبي
حاتم في تفسيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل
النار الذين هم أهلها - وقال الدارمي: الذين هم للنار - فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم، - أو قال: بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة، وقال الإمام أحمد: فيميتهم إماتة، وقال الدرامي: فإن النار تصيبهم على قدرذنوبهم فيحرقون فيها حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم وقال الدرامي: فيخرجون من النار ضبائر ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون" ، وقال الدرامي فتنبت لحومهم نبات الحبة في حميل السيل. الضبائر
قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الرغائب: جمع ضبارة مثل عمارة عمائر: جماعات
الناس، وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل ناس في النار
حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة، فيقول أهل الجنة: من هٰؤلاء؟، فيقال: هٰؤلاء
الجهنميون" ، ولأحمد بن منيع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "يوضع الصراط" فذكر شفاعة المؤمنين في إخوانهم بعد جواز الصراط وإذن الله
لهم في إخراجهم، قال: "فيخرجونهم منها فيطرحونهم في ماء الحياة فينبتون نبات الزرع
في غثاء السيل" ، ولابن أبي عمر عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الله قوماً من النار بعد ما امتحشوا فيها وصاروا فحماً فيلقون في نهر على
باب الجنة يسمى نهر الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل - أو كما تنبت
الثعارير - فيدخلون الجنة، فيقال: هؤلاء عتقاء الرحمن" .الثعارير - بالثاء المثلثة والعين
والراء المهملتين: نبات كالهليون، وروى الترمذي - وقال: حسن صحيح - وروي من
غير وجه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعذب ناس من أهل التوحيد
في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب
الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما تنبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون
الجنة" .
ولما كان السياق للمتقين، فكان ربما ظن أن هذا الذي فعل بهم حق لهم لا بد و
لا محيد عنه، بين أن الأمر على غير ذلك، وأنه سبحانه لو واخذهم ولم يعاملهم بفضله
وعفوه لهلكوا، فقال: { فضلاً } أي فعل بهم ذلك لأجل الفضل، ولذلك عدل عن
مظهر العظمة فقال تعالى: { من ربك } أي المحسن إليك بكمال إحسانه إلى اتباعك
إحساناً يليق بك، قال الرازي في اللوامع: أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع
الأحوال. ولما عظمه تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه صلى الله عليه وسلم، زاد في تعظيمه بالإشارة
بأداة البعد فقال: { ذلك } أي الفضل العظيم الواسع { هو } أي خاصة { الفوز } أي
الظفر بجميع المطالب { العظيم * } الذي لم يدع جهة الشرف إلا ملأها.
ولما قدم سبحانه في هذه السورة ما للقرآن من البركة بما اشتمل عليه من البشارة
والندارة والجمع والفرق، وذكرهم بما يقرون به من أنه مبدع هذا الكون مما يستلزم
إقرارهم بتوحيده المستلزم لأنه يفعل ما يشاء من إرسال وإنزال وتنبيه وبعث وغير ذلك،
وهددهم بما لا يقدر عليه غيره من الدخان والبطشة، وفعل بعض ذلك، وذكرهم بما
يعرفون من أخبار من مضى من قروم القرون وأنهم مع ذلك كله أنكروا البعث، ثم ذكر
ما يقتضي التحذير والتبشير - كل ذلك في أساليب فأتت كل المدى، فأعجزت جميع
القوى، مع ما لها من المعاني الباهرة، والبدائع الزاهرة القاهرة، سبب عن قوله فذلكة
للسورة: { فإنما يسرناه } أي جعلنا له يسراً عظيماً وسهولة كبيرة.
ولما كان الإنسان كلما زادت فصاحته وعظمت بلاغته، كان كلامه أبين وقوله
أعذب وأرصن وأرشق وأمتن، وكان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبعدهم لذلك من التكلف،
أضافه إليه فقط فقال: { بلسانك } أي هذا العربي المبين وهم عرب تعجبهم الفصاحة
{ لعلهم يتذكرون * } أي ليكونوا عند من يراهم وهو عارف بلسانهم ممن شأنه كشأنهم
على رجاء من أن يتذكروا أن هذا القرآن شاهد بإعجازه بصحة ما فيه من التوحيد
والرسالة وغيرهما مما سبق إليك وجلى عليك وإلا لقدروا هم وهم أفصح الناس على
معارضة شيء منه فيتذكروا ما غفلوا عنه من أنه عزيز بإهلاكه الجبابرة، وأنه حكيم بنصبه
الآيات لأنبيائه وتأييدهم بالمعجزات، ومن أن الكبير منهم لا يرضى أن يطعن أحد في
كبريائه ولا أن يترك من له عليه حكم وهو تحت قهره أن يبغي بعضهم على بعض ثم لا
ينصر المظلوم منهم على ظالمه ويأخذ بيده حتى لا يستوي المحسن بالمسيء، فإذا
تذكروا ذلك مع ما يعرفون من قدرة الملك وكبريائه وحكمته علموا قطعاً أنه لا بد من
البعث للتمييز بين أهل الصلاح والفساد، والفصل بين جميع العباد، فتسبب عن ذلك
قوله: { فارتقب } أي ما رجيتك به من تذكرهم المستلزم لهدايتهم.
ولما كانوا يظهرون تجلداً ولدداً أنهم لا يعبؤون بشيء من القرآن ولا غيره مما
يأتي به ولا يعدون شيئاً منه آية، أخبر عما يبطنون من خوفهم وانتظارهم لجميع ما
يهددهم به مؤكداً لأجل ظن من حمل تجلدهم على أنه جلد فقال: { إنهم } وزاد الأمر
بالإخبار بالاسم الدال على الثبات والدوام فقال: { مرتقبون * } أي تكليفهم أنفسهم
المراقبة وإجهادهم أفكارهم في ذلك دائم لا يزايلهم بل قد قطع قلوبهم وملأ صدورهم،
فقد انطبق آخر السورة على أولها، بل وعلى المراد من مجملها ومفصلها، بذكر الكتاب
والأرتقاب لأنواع العذاب - والله الهادي إلى الصواب، إنه الكريم الوهاب.