التفاسير

< >
عرض

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١٣
قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١٥
-الجاثية

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر آية البحر لعظمتها، عم بمنافع الخافقين دلالة على أنه ما خلق ذلك كله، على عظمه إلا لنا، تنبيهاً على أن الأمر عظيم فقال تعالى: { وسخر لكم } أي خاصة ولو شاء لمنعه { ما في السماوات } بإنزاله إليكم منبهاً على أنها بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه، وأكد بإعادة الموصول لأن السياق للدلالة على عزته وحكمته الدالتين على توحده باستحقاق العبادة الذي هم له منكرون كما دلتا على توحده بالإيجاد والسيادة وهم معترفون بذلك بألسنتهم، وأفعالهم أفعال من ينكره، فقال: { وما في الأرض } وأوصلكم إليه ولو شاء لجعلكم كما في السماء لا وصول لكم إليه، وأكد ما دل على ما مضى من العموم بقوله: { جميعاً } حال كون ذلك كله من أعيان تلك الأشياء ومن تسخيرها { منه } لا صنع لأحد غيره في شيء منه في ذلك، قال الرازي في اللوامع: قال أبو يعقوب النهر جوري: سخر لك الكل لئلا يسخرك منها شيء، وتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى، فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه، وقال القشيري: ما من شيء من الأعيان الظاهرة إلا ومن وجه للانسان به انتفاع، فمن أن يستسخرك ما هو مسخر لك.
ولما صح أنه لا شريك له في شيء من الخلق لا من الذوات ولا من المعاني، حسن جداً قوله، مؤكداً لأن عملهم يخالفه: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم وهو تسخيره لنا كل شيء في الكون { لآيات } أي دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا { لقوم } أي ناس فيهم أهلية للقيام بما يجعل إليهم { يتفكرون * } أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً.
ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة، وكان على المقبل عليه المحب له التخلق بأوصافه، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف: { قل } أي بقالك وحالك { للذين آمنوا } أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله: اغفروا تسنناً به من أساء إليكم. ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره، ومن لم يرد ذلك منه فلا حيلة في كفه بوجه فالاشتغال به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله: { يغفروا } أي يستروا ستراً بالغاً.
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال: { للذين } وعبر في موضع { أساؤوا إليهم } بقوله تعالى: { لا يرجون } أي حقيقة ومجازاً، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف، وقال بعد ما نبه عليه بتلك العبارة من جليل الإشارة: { أيام الله } أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في الأمم الخالية بإدالة الدول تارة لهم وأخرى عليهم، وفيه أعظم ترغيب في الحث على الغفران للموافق في الدين، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى عبيده إلا من أعرض عنه، فصار حاله حال الآئس من صنائعه سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما، قال ابن برجان: وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى
{ ما ننسخ من آية أو ننسها } [البقرة: 106] وليس بنسخ بل هو حكم يجيء ويذهب بحسب القدرة على الانتصار، وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف، وتركت هذه وأمثالها مسطورة في القرآن لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم.
ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا، سقط عنه أمرها في الآخرة، وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة، علل الأمر بالغفران مهدداً للجاني ومسلياً للمجني عليه: { ليجزي } أي الله في قراءة الجماعة بالتحتانية والبناء للفاعل، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون، وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم.
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل ذلك قال: { قوماً } أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف { بما } أي بسبب الذي { كانوا } أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج { يكسبون * } أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر، والحاصل أنه تعالى يقول: أعرض عمن ظلمك وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك ولا أظلم أحداً، فسوف أجزيك على صبرك أجزيه على بغيه وأنا قادر، وأفادت قراءة أبي جعفر الإبلاغ في تعظيم الفاعل وأنه معلوم، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى
{ وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً } [الدهر: 12] ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً، فجعل الجزاء كالفاعل وإن كان مفعولاً كما جعل "زيد" فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى: تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي من جزائه ومحيصاً به لأن الله تعالى بعظم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له، قال الله تعالى { سيجزيهم وصفهم } [الأنعام: 139] بما كانوا يعملون، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير "الذين" بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى: سيجزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم فيجعل كلاًّ منهم فداء لكل منهم من النار، وربما رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا، روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل" . ولأحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر" - أو كلمة نحوها، وروى الحاكم وصحح إسناده، قال المنذري: وفيه انقطاع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه" .
ولما رغب سبحانه ورهب وتقرر أنه لا بد من الجزاء، زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال شارحاً للحزاء: { من عمل صالحاً } قال أو جل { فلنفسه } أي خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا أو في الآخرة { ومن أساء } أي كذلك إساة قلت أو جلت { فعليها } خاصة إساءته كذلك، وذلك في غاية الطهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً وإن كانت نقائص النفوس قد غطت على كثير من العقول ذلك ومن جزائه أنه يديل المسيء على المحسن لهفوة وقعت له ليراجع حاله بالتوبة.
ولما كان سبحانه قادراً لا يفوته شيء كان بحيث لا يعجل فأخر الجزاء إلى اليوم الموعود: { ثم } أي بد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ { إلى ربكم } أي المالك لكم وحده لا إلى غيره { ترجعون * }.