التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٦
وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ
٢٧
-الجاثية

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان التقدير للدلالة على الختم على مشاعرهم، فقد قالوا مع اعترافهم بتفرده تعالى بخلقهم ورزقهم وخلق جميع الموجدات في إنكار الوحدانية: إن له شركاء، عطف عليه قوله: { وقالوا } أي في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه قادر على كل شيء ومعرفتهم أنه قد وعد بذلك في الأساليب المعجزة وأنه لا يليق بحكيم أصلاً أن يدع من تحت يده يتهارجون من غير حكم بينهم: { ما هي } أي الحياة { إلا حياتنا } أي أيها الناس { الدنيا } أي هذه التي نحن فيها مع أن تذكر مدلول هذا الوصف الذي هو أمر نسي لا يعقل إلا بالإضافة إلى حياة أخرى بُعدى كافٍ في إثبات البعث.
ولما أثبتوا بادعائهم الباطل هذه الحياة أتبعوها حالها فقالوا: { نموت ونحيا } أي تنزع الروح من بعض فيموت، وتنفخ في بعض آخر فيحيى، وليس وراء الموت حياة أخرى للذي مات، فقد أسلخوا أنفسهم بهذا القول من الإنسانية إلى البهيمية لوقوفهم مع الجزئيات، ولما كان هلاكهم في زعمهم لا آخر له، عدوا الحياة في جنبه عدماً فلم يذكروها وقالوا بجهلهم: { وما يهلكنا } أي بعد هذه الحياة { إلا الدهر } أي الزمان الطويل بغلبته علينا بتجدد إقباله وتجدد إدبارنا بنزول الأمور المكروهة بنا، من دهره - إذا غلبة. ولما أسند إليهم هذا القول الواهي، بين حالهم عند قوله فقال تعالى: { وما } أي قالوه والحال أنه ما { لهم بذلك } أي القول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه، وأن الهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه، وأعرق في النفي فقال: { من علم } أي كثير ولا قليل { إن } أي ما { هم إلا يظنون * } بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف، وأنه لم يرجع أحد من الموتى.
ولما كان هذا من قولهم عجباً، زاده عجباً بحالهم عند سماعهم للبراهين القطعية، فقال عاطفاً على "قالوا": { وإذا تتلى } أي تتابع بالقراءة من أيّ تال كان { عليهم آياتنا } أي على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها { بينات } أي في غاية المكنة في الدلالة على البعث، فلا عذر لهم في ردها { ما كان } أي بوجه من وجوه الكون { حجتهم } أي قولهم الذي ساقوه مساق الحجة، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة { إلا أن قالوا } قولاً ذميماً ولم ينظروا إلى مبدئهم { ائتوا } أيها التالون للحجج البينة من النبي - صل الله عليه وسلم - وأتباعه الذين اهتدوا بهداه { بآبائنا } الموتى، وحاصل هذا أنه ما كان لهم حجة إلا أن أتوا بكلام معناه: ليس لنا حجة لأنه ليس فيه شبهة فضلاً عن حجة، وما كفاهم مناداتهم على أنفسهم بالجهل حتى عرضوا لأهل البينات بالكذب فقالوا: { إن كنتم صادقين * } أي عريقين في الكون في أهل الصدق الراسخين فيه من أنه سبحانه وتعالى يبعث الخلق بعد موتهم، وذلك استبعاد منهم لأن يقدر على جمع الجسم بعد ما يلي، وهم يقرون بأنه الذي خلق ذلك الجسم ابتداء، ومن المعلوم قطعاً أن من قدر على إنشاء شيء من العدم قدر على إعادته بطريق الأولى.
ولما كان سبحانه وتعالى إنما يقبل الإيمان عند إمكان تصوره، وذلك إذا كان بالغيب لم يجبهم إلى إحياء آبائهم إكراماً لهذه الأمة لشرف نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام لأن سنته الإلهية جرت بأن من لم يؤمن بعد كشف الأمر بإيجاد الآيات المقترحات أهلكه كما فعل بالأمم الماضية، فرفعهم عن الحس إلى التدريب على الحجج العقلية فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم بالجواب بقوله تعالى: { قل الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحكمة { يحييكم } أي يجدد هذا تجديداً لا يحصى كما أنتم به مقرون إحياء لأجساد يخترعها من غير أن يكون لها أصل في الحياة { ثم يميتكم } بأن يجمع أرواحكم من أجسادكم فيستلها منها لا يدع "شيئاً" منها في شيء من الجسد وما ذلك على الله بعزيز فإذا هو كما كان قبل الإحياء كما تشاهدون، ومن قدر على هذا الإبداء على هذا الوجه من التكرر ثم على تمييز ما بث من الروح في حال سلها من تلك الأعضاء الظاهر عادة مستمرة كان المخبر عنه بأنه يجمع الخلق بعد موتهم من العريقين في الصدق، فلذلك قال من غير تأكيد: { ثم يجمعكم } أي بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد، منتهين { إلى يوم القيامة } أي القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق الذين أماتهم.
ولما صح بهذا الدليل القطعي المدعى، أنتج قوله: { لا ريب } أي شك بوجه من الوجوه { فيه } بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً { ولكن أكثر الناس } بما لهم من السفول بما ركبنا فيهم من الحظوظ والشهوات التي غلبت على غريزة العقل فردوا بها أسفل سافلين في حد النوس وهو التردد لم يرتقوا إلى الإيمان { لا يعلمون * } أي لا يتجدد لهم علم لما لهم من النوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل، فهم واقفون مع المحسوسات، لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور لتظهر قدرتنا ويتحقق اسمنا الباطن كما تحقق الظاهر عند من هديناه لعلم ذلك.
ولما دل على قدرته على الإعادة بهذا الدليل الخاص الذي تقديره: فالله الذي ابتدأ خلقكم من الأرض على هذا الوجه قادر على إعادتكم، عطف عليه دليلاً آخر جامعاً فقال تعالى: { ولله } أي الملك الأعظم وحده { ملك السماوات } كلها { والأرض } التي ابتدأكم منها، ومن تصرف في ملكه بشيء من الأشياء، كان قادراً على مثله ما دام ملكاً.
ولما كان التقدير: له ملك ذلك أبداً، فهو يفعل فيه اليوم ما تشاهدون مع رفع هذا وخفض هذا، فلو أن الناس سلموا لقضائه لوصلوا إلى جميع ما وصلوا إليه بالبغي والعدوان، فإنه لا يخرج شيء عن أمره ولكن أكثر الناس اليوم في ريبهم يترددون، بنى عليه قوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة } أي توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمامه أمره الناهض بأعباء ما يريد، وكرر سبحانه للتهويل والتأكيد قوله: { يومئذ } أي إذا تقول يخسرون - هكذا كان الأصل، ولكنه قال للتعميم والتعليق بالوصف: { يخسر المبطلون * } أي الداخلون في الباطل العريقون في الاتصاف به، الذين كانوا لا يرضون بقضائي فيستعجلون فيتوصلون إلى مراداتهم بما لم آمر به، ولا يزالون يبغون إلى أن يأتي الوقت الذي قدرت وصلوهم إليها فيه، فيصلون ويظنون أنهم وصلوا بسعيهم، وأنهم لو تركوا لما كان لهم ذلك فيخسرون لأجل سعيهم بما جعلت لهم من الاختيار بمرادي فيهم على خلاف أمري، خسارة مستمرة التجدد لا انفكاك لهم عنها ويفوز المحقون.