التفاسير

< >
عرض

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٣
وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٣٤
ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ
٣٥
-الجاثية

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد، التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشديد الغضب فقال تعالى: { وبدا } أي ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال، والزلازل والأهوال، وظهر { لهم } غاية الظهور { سيئات ما } ولما كان السياق للكفرة، وكانوا مؤاخذين بجميع أعمالهم فإنه ليس لهم أساس صالح يكون سبباً لتكفير شيء مما تقلبوا فيه ولم يقتض السياق خصوصاً مثل الزمر، عبر بالعمل الذي هو أعم من الكسب فقال: { عملوا } فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك { وحاق بهم } أي أحاط على حال القهر والغلبة، قال أبو حيان: ولا يستعمل إلا في إلا في المكروه. { ما كانوا } جبلة وخلقاً { به يستهزءون * } أي يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك { وقيل } أي لهم على قطع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له، فكأنه بلسان كل قائل: { اليوم ننساكم } أي نفعل معكم بالترك من جميع ما يصلحكم فعل المنسي الذي نقطع عنه جميع إحساننا فيأتيه كل شر { كما نسيتم } وأضاف المصدر إلى ظرفه لما فيه من الرشاقة والبلاغة فقال تعالى: { لقاء يومكم هذا } أي الذي عملتم في أمره عمل الناسي له، ومن نسي لقاء اليوم نسيء لقاء الكائن فيه بطريق الأولى، وقد عابهم الله سبحانه تعالى بذلك أشد العيب لأن ما عملوه ليس من فعل الحزمة أن يتركوا ما ضرره محتمل لا يعتدون له، وإنما هذا فعل الحمق الذين هم عندهم أسقال لا عبرة لهم ولا وزن لهم، وعبر بالنسيان لأن علمه مركوز في طبائعهم، وعبر في فعله بالمضارع ليدل على الاستمرار، وفي فعلهم بالماضي ليدل على أن من وقع منه ذلك وقتاً ما وإن قل كان على خطر عظيم بتعريض نفسه لاستمرار الإعراض عنه.
ولما كان تركه على هذا الحال يلزم منه استمرار العذاب، صرح به إيضاحاً له لئلا يظن غير ذلك، فقال مبيناً لحالهم: { ومأواكم النار } ليس لكم براح عنها أصلاً، لأن أعمالكم أدخلتكموها، ولا يخرج منها إلا من أذنا في إخراجه، نحن قد جعلناكم في عداد المنسي فلا يكون من قبلنا لكم فرج { وما لكم } في نفس الأمر سواء أفكرتم وأنتم مكذبون في مدافعة هذا اليوم أو تركتموه ترك المنسي { من ناصرين * } ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة.
ولما ذكر جزاءهم على ما هو الحق المساوي لأعمالهم طبق الفعل بالفعل، علله بما لزم على أعمالهم فقال: { ذلكم } أي العذاب العظيم { بأنكم اتخذتم } أي بتكليف منكم لأنفسكم وقسر على خلاف ما أدى إليه العقل، وجاءت به الرسل، وساعدت عليه الفطر الأول { آيات الله } أي الملك الأعظم الذي لا شيء أعظم منه { هزواً } أي جعلتموها عين ما أنزلت للإبعاد منه { وغرتكم } لضعف عقولكم { الحياة الدنيا } أي الدنية فآثرتموها لكونها حاضرة وأنت كالبهائم لا يعدو نظركم المحسوس فقلتم: لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب، ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالأخرى.
ولما أوصلهم إلى هذا الحد من الإهانة، سبب عنه زيادة في إهانتهم وتلذيذاً لأوليائه الذين عادوهم فيه وإشماتاً لهم بهم: { فاليوم } بعد إيوائهم فيها { لا يخرجون } بمخرج ما { منها } لأن الله لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك { ولا هم } خاصة { يستعتبون * } أي يطلب من طالب ما منهم الإعتاب، وهو الاعتذار بما يثبت لهم العذر ويزيل عنهم العتب الموجب للغضب بعمل من الأعمال الصالحات لأنهم في دار الجزاء لا دار العمل.