التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ
٣٠
يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٣١
وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٢
-الأحقاف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان كأنه قيل: ما قالوا لهم في إنذارهم؟ قيل: { قالوا } أي لقومهم حين أقبلوا عليهم: { يا قومنا } مترققين لهم ومشفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم يهمهم ما يهمهم ويكربهم ما يكربهم كما قيل:

وإن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك

ولما كانوا - بنزول ما في أسفار الأنبياء من بني إسرائيل والزبور والإنجيل خالية من الأحكام والحدود إلا يسيراً من ذلك في الإنجيل - قاطعين أو كالقاطعين بأنه لا ينزل كتاب يناظر التوراة في الأحكام والحدود وغيرها، فكان قومهم ربما توقفوا في الإخبار بإنزال ما هو أشرف من ذلك، أكدوا قولهم: { إنا سمعنا } أي بيننا وبين القارئ واسطة، وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع ما يراد منه، مغن عن جميع الكتب غير هذا، وبذلك عرفوا أنه ناسخ لجميع الشرائع فقالوا على سبيل التبيين لما سمعوا: { كتاباً } أي ذكراً جامعاً، لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل { أنزل } أي ممن لا منزل في الحقيقة غيره، وهو مالك الملك وملك الملوك لأن عليه من رونق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز، وعلموا قطعاً بعربيته أنه عربي وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار، وبأنه مباين لجميع ذلك أنه قريب العهد بالنزول من محل العظمة، فقالوا مثبتين للجار: { من بعد موسى } عليه الصلاة والسلام، فلم يعتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة من الإنجيل وما قبله، لأنه لا يساوي التوراة في الجمع، ولا يعشر هذا الكتاب في الأحكام والحكم واللطائف والمواعظ مع ما زاد به من الإعجاز وغيره.
ولما أخبروا بأنه منزل، أتبعوه ما يشهد له بالصحة فقالوا: { مصدقاً لِمَا بين يديه } أي من جميع كتب بني إسرائيل الإنجيل وما قبله؛ ثم بينوا تصديقه بقولهم: { يهدي إلى الحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به، الكامل في جميع ذلك { وإلى طريق } موصل إلى المقصود الأعظم وهو الإيمان بمنزله { مستقيم * } فهو يوصل بغاية ما يمكن من السرعة، لا يمكن أن يكون فيه عوج، فيقدر السالك فيه على أن يختصر طريقاً يكون وتراً لما تقوس منه.
ولما أخبروهم بالكتاب وبينوا أنه من عند الله وأنه أقرب موصل إليه، فكان قومهم جديرين بأن يقولوا: فما الذي ينبغي أن نفعل؟ أجابوهم بقوله: { يا قومنا } الذين لهم قوة العلم والعمل { أجيبوا داعي الله } أي الملك الأعظم المحيط بصفات الجلال والجمال والكمال، فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره.
ولما كنا المجيب قد يجيب في شيء دون شيء كما كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، عطفوا في خطابهم لهم في الدعوة أن قالوا: { وآمنوا به } أي أوقعوا التصديق بسبب الداعي لا بسبب آخر، فإن المفعول معه مفعول مع من أرسله وهو الله الذي جلت قدرته وآمنوه من كل تكذيب، أو الضمير للمضاف إليه وهو الله بدليل قولهم: { يغفر لكم }: فإنه يستر ويسامح { من ذنوبكم } أي الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى أي وذلك الستر لا يكون إلا إذا حصل منكم الإجابة التامة والتصديق التام وأدخلوا "من" إعلاماً بأن مظالم العباد لا تغفر إلا بإرضاء أهلها وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها مما أشار إيه قوله تعالى
{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [الشورى: 30] { ويجركم } أي يمنعكم "إذا أجبتم" منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه { من عذاب أليم * } واقتصارهم على المغفرة تذكير بذنوبهم لأن مقصودهم الإنذار لا ينافي صريح قوله ي هذه السورة { ولكل درجات مما عملوا } [الأنعام: 132] في إثبات الثواب، ونقله أبو حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها.
ولما فرغوا من التعريف بالحق والدلالة عليه والدعاء إليه والإنذار بالرفق بما أفهم كلامهم من أنهم إن لم يجيبوا انتقم منهم بالعذاب الأليم، أتبعوه ما هو أغلظ إنذاراً منه فقالوا: { ومن لا يجب } أي لا يتجدد منه أن يجيب { داعي الله } أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء الذي لا كفوء له ولا طاقة لأحد بسخطه فعم بدعوة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الخلق.
ولما دل الكتاب والسنة كما قدمته في سورتي الأنعام والفرقان على عموم الرسالة، وكان التارك لإجابة من عمت رسالته عاصياً مستحقاً للعذاب، عبر عن عذابه، بما دل على تحتمه فقال تعالى: { فليس بمعجز } أي لما يقضي به عليه { في الأرض } فإنه آية سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به { وليس له من دونه } أي الله الذي لا يجير إلا هو { أولياء } يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء والمناصبة لأجله.
ولما انتفى عنه الخلاص من كل وجه، وكان ذلك لا يختلف سواء كان العاصي واحداً أو أكثر، أنتج قوله سبحانه وتعالى معبراً بالجمع لأنه أدل على القدرة ودلالة على أن العصاة كثيرة لملاءمة المعاصي لأكثر الطبائع: { أولٰئك } أي البعيدون من كل خير { في ضلال مبين * } أي ظاهر في نفسه أنه ضلال، مظهر لكل أحد قبح إحاطتهم به، قال القشيري: ويقال: الإجابة على ضربين: إجابة الله، وإجابة الداعي، فإجابة الداعي بشهود الواسطة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجابة الله بالجهر إذا بلغت المدعو رسالته صلى الله عليه وسلم على لسان السفير، وبالسر إذا حصلت التعريفات من الواردات على القلب، فمستجيب بنفسه، ومستجيب بقلبه، و مستجيب بروحه، ومستجيب بسره، ومن توقف عن دعاء الداعي إياه هجر فما كان يخاطب به.