التفاسير

< >
عرض

وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
-محمد

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا ثواباً عظيماً ونوالاً جسيماً، أتبعه ثواباً أعظم منه فقال تعالى: { ويدخلهم الجنة } أي دار القرار الكاملة في النعيم، وأجاب من كأنه يسأل عن كيفية إدخالهم إياها وكيفيتها عند ذلك بقوله تعالى: { عرفها لهم * } أي بتعريف الأعمال الموصلة إليها والتوفيق لهم إليها في الدنيا وأيضاً بالتبصير بالمنازل في الآخرة حتى أن أحدهم يصير أعرف بمنزله فيها منه بمنزله في الدنيا، وطيب رائحتها وجعل موضعها عالياً وجدرانها عالية وهي ذات أغراف وشرف، وفي هذه الآية بشرى عظيمة لمن جاهد ساعة ما بأن الله يميته على الإسلام المستلزم لئلا يضيع له عمل، ويؤيده ما رواه الطبراني في الكبير عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للإسلام ثلاث أبيات: سفلى وعليا وغرفة، فأما السفلى فالإسلام دخل فيه عامة المسلمين فلا تسأل أحداً منهم إلا قال: أنا مسلم، وأما العليا فتفاضل أعمالهم بعض المسلمين أفضل من بعض، وأما الغرفة العليا فالجهاد في سبيل الله لا ينالها إلا أفضلهم" .
ولما ذكر القتال، تشوف السامع إلى حال المقاتل من النصر والخذلان فأجاب بما يعرف بشرط النصر فقال: { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بذلك وإن كان في أدنى الدرجات بما أشعرت به أداة البعد والصلة بالماضي { إن تنصروا الله } أي يتجدد لكم نية مستمرة وفعل دائم على نصرة دين الملك الأعظم بإيضاح أدلته وتبيينها وتوهية شبه أهل الباطل وقتالهم، ويكون ذلك خالصاً له لا لغيره من النيات الفاسدة المعلولة بطلب الدنيا أو الشهرة بالشجاعة والعلم وطيب الذكر الغضب للأهل وغير ذلك { ينصركم } فإنه الناصر لا غيره من عدد أو عدد فيقمع أعداء الدين بأيديكم.
ولما كان النصر قد يكون مع العجز والكسل والجبن والفشل بين أنه يحميهم من ذلك فقال: { ويثبت أقدامكم * } أي تثبيتاً عظيماً بأن يملأ قلوبكم سكينة واطمئناناً وأبدانكم قوة وشجاعة في حال القتل ووقت البحث والجدال، وعند مباشر جميع الأعمال، فتكونوا عالين قاهرين في غاية ما يكون من طيب النفوس وانشراح الصدور ثقة بالله واعتزازاً به وإن تملأ عليكم أهل الأرض.
ولما ذكر أهل الإيمان، بين ما لأهل الكفران، فقال سبحانه: { والذين كفروا } أي ستروا ما دل عليه العقل وقادت إليه الفطر الأولى، وبين أن سوء أعمالهم أسباب وبالهم بالفاء. فقال مؤكداً بجعل الخبر مفعولاً مطلقاً لأجل استبعادهم بما لهم من القوة بكثرة العدد والملاءة بالعدد: { فتعساً } أي فقد عثروا فيقال لهم ما يقال للعاثر الذي يراد أنه لا يقوم: تعساً لا قيام معه، كما يقال لمن عثر وأريد قيامه: تعساً لك، والمراد بالتعس الانحطاط والسفول والهوان والقلق. ولما كان كأنه قيل: لمن هذا؟ قيل: { لهم } فلا يكادون يثبتون في قتال لمن صلحت من الأعمال.
ولما كان الإنسان قد يعثر ويقع ويقال له: تعساً، ويقوم بعد ذلك، ولا يبطل عمله، بين أن قوله ليس كذلك، بل مهما قاله كان لا يتخلف أصلاً، فقال معبراً بالماضي إشارة إلى التحتم فيه، وأما الاستقبال فربما تاب على بعضهم فيه عاطفاً على ما تقديره فقال تعالى لهم ذلك: { وأضل أعمالهم * } وإن كانت ظاهرة الإيقان لأجل تضييع الأساس بالإيمان.
ولما بين ما صنع بهم ليجترئ به حزبه عليهم، بين سببه ليجتنب فقال: { ذلك } الأمر البعيد من الخير { بأنهم } أي بسب بأنهم { كرهوا } بغضوا وخالفوا وأنكروا { ما أنزل الله } أي الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه، والذي أنزله من القرآن والسنة هو روح الوجود الذي لا يعاندونه، فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبتها أشباحهم، وهو معنى قوله مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم: { فأحبط } أي أبطل إبطالاً لا صلاح معه { أعمالهم * } بسبب أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح، لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له يقبل من العمل إلا ما حده ورسمه، وهذا وعيد للأمة بأنها إن تخلت عن نصر الله والجهاد في سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها سبحانه إلى نفسها وتخلى عن نصرها وسلط عليها عدوها، ولقد وجد بعض ذلك من تسلط الفسقة لما وجد التهاون في بعض ذلك والتواكل فيه.