التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ
٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٣
-الحجرات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتدائها باسمه الشريق وسمى السورة به، وملأ سورة محمد بتعظيمه، وختمها باسمه، ومدح أتباعه لأجله، افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد من حزبه والفوز بقربه، ومدار ذلك معالي الأخلاق، وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظة الآخر، وغيرهما إما أن يكون داخلاً مع المؤمنين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها، وهو الفاسق، والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم، فهذه خمسة أقسام، فصل النداء بسببها خمس مرات، كل مرة لقسم منها، وافتتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس الذي لا يبنى إلا عليه، فقال منادياً للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهاً على أن سبب نزولها من أفعالهم لا من أفعال أهل الكمال، فهو هفوة تقال، وما كان ينبغي أن يقال، وليشمل الخطاب المعهود للأدنى - ولو مع النفاق - من فوقه من باب الأولى: { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان { لا تقدموا } وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم كل مذهب، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً، بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل، ويجوز أن يكون من قدم - بالتشديد بمعنى أقدم وتقدم أي شجع نفسه على التقدم، ومنه مقدمة الجيش، وهم متقدموه، وأشار إلى تهجين ما نهوا عنه وتصوير شناعته، وإلى أنهم في القبضة ترهيباً لهم فقال: { بين يدي الله } أي الملك الذي لا يطاق انتقامه.
ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل إليهم اعتراض أصلاً، وبذلك استحق أن لا يتكلم بحضرته في مهم ولا يفعل مهم إلا بإذنه، لأن العبيد لما لهم من النقص لا استقلال لهم بشيء أصلاً، عبر بالرسول دون النبي بعد أن ذكر اسمه تعالى الأعظم زيادة في تصوير التعظيم فقال: { ورسوله } أي الذي عظمته ظاهرة جداً، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه، وإجلالاً له، فلا يفعل أحد غير ذلك إلا بتشجيع منه لنفسه وتكليفها ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى القويمة، فالمعنى: لا تكونوا متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى، فعلى الغير الاقتداء والاتباع، لا الابتداء والابتداع، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً أو حاضراً بموت أو غيره. فإن آثاره كعينه، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح،
{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [العنكبوت: 69].
ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيباً من انتقام القادر إذا خولف، صرح بذلك بقوله تعالى: { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإن التقوى مانعة من أن تضعيوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه.
ولما كان سبحانه مع كل بعلمه، وأقرب إليه من نفسه، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء، ذكره مرهباً بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به والمواظبة على الاستمرار على استحضاره، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره: { إن الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال. ولما كان ما يتقدم فيه إما قولاً أو فعلاً قال: { سميع } أي لأقوالكم أن تقولوها { عليم * } أي بأعمالكم قبل أن تعملوها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابه نبيه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته فقال
{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [الفتح: 29] "إلى آخره"، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل، وهذه خصيصة انفردوا بمزية تكريمها وجرت على واضح قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف } [آل عمران: 110] إلى آخره، وشهدت لهم بعظيم المنزلة لديه، ناسب هذا طلبهم بتوفية العشب الإيمانية قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً على أوضح عمل وأخلص نية، وتنزيههم عما وقع من قبلهم في مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل { يا موسى ادع لنا ربك } [الأعراف: 134] إلى ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الآية و { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } - إلى قوله - { والله غفور رحيم } فطلبوا بآداب تناسب عليّ إيمانهم وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنها درجة لم ينلها غيركم من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء قصد في الجواب، وطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولٰئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان، أو تقول ذي بهتان { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة وتحسين العشرة والتزام ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع، وأن الخير كله في التقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة محمد.
ولما ثبت إعظام الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يفتات عليه بأن يتأهب ما هو وظيفته من التقدم في الأمور وقطع المهمات، فلا يكلم إلا جواباً أو سؤالاً في أمر ضروري لا يمكن تأخيره، وكان من يكلمه لذلك ربما رفع صوته رفعاً الأولى به غيره مما هو دونه، وكان من جملة أحواله أن يوحى إليه بالأمور العظيمة، وكان رفع الصوت إذ ذاك من المشوشات في حسن التلقي للوحي مع ما فيه من قلة الاحترام والإخلاء بالإجلال والإعظام، قال ذاكراً لثاني الأقسام، وهو ما كان النظر فيه إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بالقصد الأول، مستنتجاً مما مضى من وصفه بالرسالة الدالة على النبوة، آمراً بحفظ حرمته ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته بتبجيله وتفخيمه، وإعزازه وتعظيمه، مكرراً لندائهم بما ألزموا أنفسهم به من طاعته بتصديقه واستدعاء لتجديد الاستنصار وتطرية الندب إلى الإنصات وإشارة إلى أن المنادى له أمر يستحق أن يفرد بالنداء ويستقل بالتوصية: { يا أيها الذين آمنوا } مكرراً للتعبير بالأدنى من أسنان القلوب للتنبيه على أن فاعل مثل هذه المنهيات والمحتاج فيها إلى التنبيه بالنهي قد فعل من هذا حاله { لا ترفعوا أصواتكم } أي في شيء من الأشياء { فوق صوت النبي } أي الذي يتلقى عن الله، وتلقيه عنه متوقع في كل وقت، وهذا يدل على أن أذى العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عند شديد جداً، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك.
ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال: { ولا تجهروا له بالقول } أي إذا كلمتموه سواء كان ذلك بمثل صوته أو أخفض من صوته، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء. ولما شمل هذا كل جهر مخصوص، وهو ما يكون مسقطاً للمزية، قال: { كجهر بعضكم لبعض } أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره. ولما نهى عن ذلك، بين ضرره فقال مبيناً أن من الأعمال ما يحبط ولا يدرى أنه محبط، ليكون العامل كالماشي في طريق خطر لا يزال يتوقى خطره ويديم حذره: { أن } أي النهي لأجل خشية أن { تحبط } أي تفسد فتسقط { أعمالكم } أي التي هي الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها { وأنتم لا تشعرون } أي بأنها حبطت، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف به واظب عليه، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر.
ولما تقدم سبحانه في الإخلال بشيء من حرمته صلى الله عليه وسلم ونهى عن رفع الصوت والجهر الموصوف، أنتج المخافة عنده على سبيل الإجلال، فبين ما لمن حافظ على ذلك الأدب العظيم، فقال مؤكداً لأن في المنافقين وغيرهم من يكذب بذلك، وتنبيهاً. على أنه لمحبة الله له ورضاه به أهل لأن يؤكد أمره ويواظب على فعله: { إن الذين يغضون } أي يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته، قال الطبري: وأصل الغض الكف في لين { أصواتهم } تخشعاً وتخضعاً ورعاية للأدب وتوقيراً.
ولما كان المبلغ ربما أنساه اللغط ورفع الأصوات ما كان يريد أن يبلغه "إنه بينت لي ليلة القدر فخرجت لأخبركم بها فتلاحى رجلان فأنسيتها وعسى أن يكون خيراً لكم" قال: { عند رسول الله } أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ من الملك الأعظم وعبر بعند التي للظاهر إشارة إلى أن أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب.
ولما ابتدأ ذكرهم مؤكداً تنبيهاً على عظيم ما ندبوا إليه، زاده إعظاماً بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال: { أولٰئك } أي العالو الرتب لما لهم من علو الهمم بالخضوع لمن أرسله مولاهم الذي لا إحسان عندهم إلا منه { الذين امتحن الله } أي فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر بالمخالطة البليغة بالشدائد على وجه يؤدي إلى المنحة باللين والخلوص من كل درن، والانشراح والاتساع { قلوبهم } فأخلصها { للتقوى } أي الخوف المؤدي إلى استعداد صاحبه بإقامة ما يقيه من كل مكروه، والامتحان: اختبار بليغ يؤدي إلى خبر، فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة للتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة كما كان معلوماً له سبحانه في عالم الغيب، وهو خروجهم عن العادات البشرية ومفارقتهم لما توجبه الطبيعة، وهو حقيقة التوحيد، فإن التقوى لا تظهر إلا عند المحن والشدائد بالتكليف وغيرها، ولا تثبت إلا بملازمة الطاعة في المنشط والمكره والخروج عن مثل ذلك.
ولما كان الإنسان وإن اجتهد في الإحسان محلاًّ للنقصان، استأنف الإخبار عن جزائهم بقوله: معرباً له من فاء السبب، إشارة إلى أن ذلك بمحض إحسانه: { لهم مغفرة } أي لهفواتهم وزلاتهم { وأجر عظيم * } أي جزاء لا يمكن وصفه على محاسن ما فعلوه.