ولما نهى سبحانه عن الإخلال بالأدب، وأمر بالمحافظة على التعظيم، وذكر
وصف المطيع، أتبع ذلك على سبيل النتيجة وصف من أخل به، فقال مؤكداً لأجل أن
حالهم كان حال من يدع عقلاً تاماً: { إن الذين ينادونك } أي يجددون نداءك من غير
توبة والحال أن نداءهم إياك كائن { من وراء } إثبات هذا الجار يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان
داخلها، ولو سقط لم يفد ذلك، بل كان يفيد أن نسبة الأماكن التي وراءها الحجرات
كلها بالنسبة إليه وإليهم على حد سواء، وذلك بأن يكون الكل خارجها، والوراء: الجهة
التي تواريك وتواريها من خلف أو قدام.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم من العظمة في نفسه وفي تبليغ رسالات الله في هيئتها
بمكان من العظمة بحيث لا يخفى على أحد. فليس لأحد أن يفتات فيها عليه ولا أن
يعجله عن شيء، وكان نداؤه لذلك من وراء حجرته واحدة كندائه من وراء كل حجرة
جمع فقال: { الحجرات } ولم يضفها إليه إجلالاً له، وليشمل كوني في غيرها أيضاً،
والمعنى: مبتدئين النداء من جهة تكون الحجرات فيها بينك وبينهم فتكون موازية لك
منهم ولهم منك، وهي جمع حجرة، وهي ما حوط من قطع الأرض بحائط يمنع ممن
يكون خارجه من أذى من يكون داخله بقول أو فعل، فإنه يكون فيما يختص به من
الاجتماع بنسائه أو إصلاح شيء من حاله، لا يتهيأ له بحضور الناس فيما يتقاضاه
المروءة، وأسند الفعل إلى الجمع وإن كان المنادي بعضهم للرضى به أو السكوت عن
النهي.
ولما كان الساكت قد لا يكون راضياً قال: { أكثرهم } أي المنادي والراضي دون
الساكت لعذر { لا يعلقون * } لأنهم لم يصبروا، بل فعلوا معه صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعضهم
مع من يماثله، والعقل يمنع من مثل ذلك لمن اتصف بالرئاسة فكيف إذا كانت رئاسة
النبوة والرسالة عن الملك الجبار الواحد القهار.
ولما ذمهم بسوء عملهم، أرشدهم إلى ما يمدحون به من حسنه فقال: { ولو
أنهم } أي المنادي والراضي { صبروا } أي حبسوا أنفسهم ومنعوها عن مناداتهم،
والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها وهو حبس فيه شدة، وصبر عن كذا -
محذوف الفعل لكثرة دوره، أي نفسه { حتى تخرج } من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت
فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق. ولما كان الخروج قد يكون إلى
غيرهم من المصالح، فلا يسوغ في الأدب أن يقطع ذاك عليه قال: { إليهم } أي ليس
لهم أن يكلموك حتى تفرغ لهم فتقصدهم فإنك لا تفعل شيئاً في غير حينه بمقتضى أمر
الرسالة { لكان } أي الصبر.
ولما كان العرب أهل معال فهم بحيث لا يرضون إلا الأحسن فقال: { خيراً لهم }
أي من استعجالهم في إيقاظك وقت الهاجرة وما لو قرعوا الباب بالأظافير كما كان يفعل
غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا على تقدير أن يكون ما ظنوا من أن فيه خيراً
فكانوا يعقلون، ففي التعبير بذلك مع الإنصاف بل الإغضاء والإحسان هز لهم إلى
المعالي وإرشاد إلى ما يتفاخرون به من المحاسن، قال الرازي: قال أبو عثمان: الأدب
عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى والخير في الأولى والعقبى - انتهى.
وأخيرية صبر في الدين معروفة، وأما في الدنيا فإنهم لو تأدبوا لربهم زادهم النبي صلى الله عليه وسلم في
الفضل فأعتق جميع سبيهم وزادهم، والآية في الاحتباك: حذف التعليل بعدم الصبر
أولاً لما دل عليه ثانياً، والعقل ثانياً لما دل عليه من ذكره أولاً.
ولما ذكر التقدير تأديباً لنا وتدريباً على الصفح عن الجاهل وعذره وتعليمه:
ولكنهم لم يصبروا وأساؤوا الأدب فكان ذلك شراً لهم والله عليم بما فعلوا حليم حيث
لم يعاجلهم بالعقوبة لإساءتهم الأدب على رسوله صلى الله عليه وسلم، عطف عليه استعطافاً لهم مع
إفهامه الترهيب: { والله } أي المحيط بصفات الكمال { غفور } أي ستور لذنب من تاب
من جهله { رحيم * } يعامله معاملة الراحم فيسبغ عليه نعمه. ولما تابوا، أعتبهم الله في
غلظتهم على خير خلقه أن جعلهم أغلظ الناس على شر الناس: الدجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إنهم أشد الناس عليه" .
ولما أنهى سبحانه ما أراد من النهي عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، وكان من
ذلك أذاه في أمته، فإنه عزيز عليه ما عنتوا وكان من آذاه فيهم فاسقاً، وكان أعظم الأذى
فيهم ما أورث كرباً فأثار حرباً، وكان ربما اتخذ أهل الأغراض هذه الآداب ذريعة إلى
أذى بعض المسلمين فقذفوهم بالإخلال بشيء منها فوقعوا هم فيها فيما قذفوا به غيرهم
من الإخلال بحقه والتقيد بولائه ورقه، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الطاهرة
والمعالي الظاهرة ما يؤمن معه أن يوقع شيئاً في غير محله، أن يأمر بأمر من غير حله -
هذا مع ما له من العصمة، قال منبهاً على ما في القسم الثالث من مكارم الأخلاق من
ترك العجز بالاعتماد على أخبار الفسقة، تخاطباً لكل من أقر بالإيمان على طريق
الاستنتاج مما مضى، نادباً إلى الاسترشاد بالعقل الذي نفاه عن أهل الآية السالفة،
والعفو عن المذنب والرحمة لعباد الله، منادياً بأداة البعد إشارة إلى أن من احتاج إلى
التصريح بمثل هذا التنبيه غير مكتف بما أفاده من قواعد الشرع وضع نفسه في محل
بعيد، وتنبيهاً على أن ما في حيزها كلام له خطب عظيم ووقع جسيم: { يا أيها الذين
آمنوا } وعبر بالفعل الماضي الذي هو لأدنى أسنان القلوب، وعبر بأداة الشك إيذاناً بقلة
الفاسق فيهم وقلة مجيئه إليهم بخبر له وقع، فقال: { إن جاءكم } أي في وقت من
الأوقات { فاسق } أي خارج من ربقة الديانة أيّ فاسق كان { بنبأ } أي خبر يعظم خطبه
فيؤثر شراً، أيّ خير كان مما يكون كذلك؟ { فتبينوا } أي عالجوا البيان وهو فصل
الخطأ من الصواب، استعمالاً لغريزة العقل المنفي عن المنادين واتصافاً بالغفران
والرحمة ليرحمكم الله ويغفر لكم، وهذه القراءة غاية لقراءة حمزة والكسائي بالمثلثة ثم
المثناة الفوقية، والسياق مرشد إلى أن خبر الفاسق كالنمام والساعي بالفساد كما أنه لا
يقبل فلذلك لا يرد حتى يمتحن، وإلى أن خبر العدل لا وقفة فيه، وإلا لاستوى مع
الفاسق، فالتثبت معلل بالفسق، فإذا انتفى ولم توجد علة أخرى توجب التثبت وجب
القبول، والمعلق على شيء بكلمة "إن" عدم عند عدمه، والتبين بأحد شيئين: بمراجعة
النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حاضراً، وبمراجعة آثاره من كتاب الله وسنته إلى أن تبين الأمر منهما
إن كان غائباً، فإنه لا تكون أبداً كائنة إلا وفي الكتاب والسنة المخرج منها.
ولما أمر بالتبين، ذكر علته فقال: { أن } أي لأجل كراهة أن { تصيبوا } أي بأذى
{ قوماً } أي هم مع قوتهم النافعة لأهل الإسلام براء مما نسب إليهم { بجهالة } أي مع
الجهل بحال استحاقهم ذلك.
ولما كان الإنسان إذا وضع شيئاً في غير موضعه جديراً بالندم، سبب عن ذلك
قوله: { فتصبحوا } أي فتصيروا، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان
صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته { على ما فعلتم } أي من إصابتهم
{ نادمين * } أي عريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله في نفوسكم من أمور
ترجف القلوب وتخور الطباع، وتلك سنته في كل باطل، فإنه لكونه مزلزلاً في نفسه لا
ينشأ عنه إلا الزلزال والندم على ما وقع من تمني أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان
صحبة لها دوام بما تدور مادته عليه مما يرشد إليه مدن ودمن، وهو ينشأ من تضييع
أثقال الأسباب التي أمر الإنسان بالسعي فيها كما أشار إليه حديث "احرص على ما
ينفعك ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت
كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان" والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس،
والذي نزل ذلك بسببه هو الوليد بن عقبة، ولم يزل كذلك حتى أن عثمان رضي الله عنه
ولاه الكوفة فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال: هل أزيدكم فعزله
عثمان رضي الله عنه.
ولما كان إقدامهم على كثير من الأمور من غير مشاورة لمن أرسله الله رحمة لعباده
ليعلمهم ما يأتون وما يذرون عمل من لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منه، وكان
الإعراض عنه حياً وعن بذل الجهد في استخراج الأمور من شريعته بعد موته أمراً مفسداً
للبين إن لم يعتبر ويتنبه له غاية التنبه، أخبرهم به منزلاً لهم منزلة من لا يعلم أنه موجود
معه مشيراً بكلمة التنبيه إلى أن من أخل بمراعاة ذلك في عداد الغافلين فقال: { واعلموا }
أي أيها الأمة، وقدم الخبر إيذاناً بأن بعضهم باعتراضه أو بإقدامه على ما لا علم له به
يعمل علم من لا يعلم مقدار ما خصه الله به من إنعامه عليه به صلى الله عليه وسلم، فهو يفيد توبيخ من
فعل ذلك: { أن فيكم } أي على وجه الاختصاص لكم ويا له من شرف { رسول الله }
أي الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام على حال هي أنكم تريدونه أن يتبع أذاكم،
وذلك أمر شنيع جداً، فإنه لا يليق أن يتحرك إلا بأمر من أرسله، فيجب عليكم الرجوع
عن تلك الحالة، فإنك تجهلون أكثر مما تعلمون، ولإرادتهم إن لا يطيعهم في جميع
الأمور عبر بالمضارع فقال: { لو يطيعكم } وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم
{ في كثير من الأمر } أي الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى
ما يعن لكم وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له، فينقلب حينئذ
الحال، ويصير المبتوع تابعاً والمطاع طائعاً { لعنتم } أي لاءمتم وهلكتم، ومن أراد دائماً
أن يكون أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران، فأولئك هم الغاوون،
وسياق "لو" معلم قطعاً أن التقدير: ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يطيعكم لكراهة لما يشق عليكم لما هو
متخلق به من طاعة الله والوقوف عند حدوده والتقيد في جميع الحركات والسكنات
بأمره، مع ما له من البصرة في التمييز بين الملبسات والخبرة التامة بالأمور المشتبهات،
التي هي سبب هلاك الأغلب لكونها لا يعلمها كثير من الناس، والتقييد بالكثير معلم
بأنهم يصيبون وجه الرشاد في كثير من الأمور.
ولما كان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق: ولو خالفتموه في الأمور التي لا
يطيعكم فيها لعنتم، استدرك عنه قوله: { ولكن الله } أي الملك الأعظم الذي يفعل ما
يريد { حبب إليكم الإيمان } فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته. ولما كان الإنسان قد يحب
شيئاً وهو يعلم فيه عيباً، فيكون جديراً بأن يتزلزل فيه، نفى ذلك بقوله: { وزينه في
قلوبكم } أي فلا شيء عندكم أحسن منه ولا يعادله ولا يقاربه بوجه { وكرَّه إليكم
الكفر } وهو تغطية ما أدت إليه الفطرة الأولى والعقول المجردة عن الهوى من الحق
بالجحود { والفسوق } وهو المروق من ربقة الدين، ولو من غير تغطية بل بغير تأمل
{ والعصيان } وهو الامتناع من الانقياد عامة فلم تخالفوه، ورأيتم خلافه هلاكاً، فصرتم
والمنة لله أطوع شيء للرسول صلى الله عليه وسلم، فعلم من هذا أن الله تعالى هو الفاعل وحده لجميع
الأفعال من الطاعات والمعاصي والعادات والعبادات، لأنه خالق لكل، ومدحوا لفعل
الله بهم لأنهم الفاعلون في الظاهرة فهو واقع موقع: أطعتم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تخالفوه،
وإنما وضع فعل الله وهولا يمدحون عليه موضع فعلهم الذي يمدحون عليه للحث على
الشكر والإنسلاخ من العجب.
ولما أرشد السياق إلى متابعتهم على هذا الوجه، أنتج قوله مادحاً لهم ثانياً الكلام
عن خطابهم إلى خطابه صلى الله عليه وسلم ليدل على عظم هذه الأوصاف وبينه بأداة البعد على علو مقام
المتصف: { أولٰئك } أي الذين أعلى الله القادر على كل شيء مقاديرهم { هم } أي خاصة
{ الراشدون * } أي الكاملون في الرشد وهو الهدى على أحسن سمت وتقدير، وفي
تفسير الأصبهاني: الرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه - انتهى. والذي أنتج
الرشاد متابعة الحق، فإن الله تكفل لمن تعمد الخير وجاهد نفسه على البر بإصابة الصواب
وإحكام المساعي المنافي للندم، { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع
المحسنين } وقد دل السياق على أنهم كانوا في خبر الوليد صنفين: صنف صدقه وأراد
غزوة بني المصطلق وأشار به، وصنف توقف، وأن الصنفين سلموا آخر الأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهدوا، فالآية من الاحتباك وهي شبيهة به: دلت الشرطية في { لو يطيعكم } على
الاستدراكية، والاستدراكية في { ولكن الله } على تقدير الشرطية دلالة ظاهرة.