التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ
١١٥
وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١١٧
-المائدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب، أكد الجواب فقال: { إني منزلها عليكم } أي الآن بقدرتي الخاصة بي { فمن يكفر بعد } أي بعد إنزالها { منكم } وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام، فألقى شبهه عليه، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال: { فإني أعذبه } أي على سبيل البتّ والقطع { عذاباً لا أعذبه } أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان { أحداً من العالمين * } وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع، وتحذير من كفران هذه النعم المعددة عليهم، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها؛ قال أبو حيان: وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير" انتهى. قلت: ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال: لا نعلم للحديث المرفوع أصلاً، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي، ولا أعلم أحداً ذكر عماراً فيمن أخذ عن أهل الكتاب، فهو مرفوع حكماً، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه، فيدفع قول من قال: إنها لم تنزل، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا: لا حاجة لنا بها، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت رجلاً من اليهود فقال: ما لك يا أم شريك؟ قالت: أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتعالي فأنا أصحبك، قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً، قال: معي ماء ما لا تريدين ماءً، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال: يا أم شريك! تعالي إلى العشاء! فقالت: اسقني من الماء فإني عطشى، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال لها: لا أسقيك حتى تهودي! فقالت: لا جزاك الله خيراً! غربتني ومنعتني أن أحمل ماء، فقال: لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي، فقالت: لا والله لا أتهود أبداً بعد إذ هداني الله للإسلام؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت: فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك! قلت: والله قد سقاني الله، قال: من أين أنزل عليك؟ من السماء؟ قلت: نعم، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نفسها فقالت: يا رسول الله! لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت، فزوجها زيداً وأمر لها بثلاثين صاعاً وقال: كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لجارية لها: بلغي هذه العكة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولي: أم شريك تقرئك السلام، وقولي: هذه عكة سمن أهديناها لك، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوها ففرغوها، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: علقوها ولا توكوها، فعلقوها في مكانها، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً، فقالت: يا فلانة! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: قد والله انطلقت بها كما قلت، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال: علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء، قال: وروي ذلك من وجه آخر، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه. وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشاً شديداً، قالت: فسمعت هفيفاً شديداً فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض، فتناولته بيدي حتى استمسكت به، قالت: فشربت منه حتى رويت، قالت: فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة. قال: وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عيناً، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم - فذكر الحديث حتى قال: فابتاع خبيباً - يعني ابن عدي الأنصاري - بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت: والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزق خبيباً" الحديث. ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله - وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله { { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } [المائدة: 110] { وإذ قال الله } أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء: { يا عيسى بن مريم } وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم { أأنت قلت للناس } أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب، فكأنه لا ناس غيرهم { اتخذوني } أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني { وأمي إلهين }.
ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء، ولا يرضى الشرك إلا فقير، قال: { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، فيكون المعنى: اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة، ولا دخل حينئذ للمشاركة.
ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه، وتأكيداً لما عندنا من العلم، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه، ذكره سبحانه قائلاً: { قال } مفتتحاً بالتنزيه { سبحانك } أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال: { ما يكون لي } أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً { أن أقول } أي في وقت من الأوقات { ما ليس لي } وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال: { بحق }.
ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه: أنت أعلم، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع: { إن كنت قلته } أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي { فقد علمته } وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال: { تعلم } ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات، وكان القول يطلق على النفس، فإذا انتفى انتفى اللساني، قالك { ما في نفسي } أي وإن اجتهدت في إخفائه، فإنه خلقك، وما أنا له إلا آلة ووعاء، فكيف به إن كنت أظهرته.
ولما أثبت له سبحانه ذلك، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة: { ولا أعلم ما في نفسك } أي ما أخفيته عني من الأشياء؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله: { إنك أنت } أي وحدك لا شريك لك { علام الغيوب * }.
ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين: إشارة وعبارة، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال، وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها، يعبد الله تعالى بذلك: { ما قلت لهم } أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء { إلا ما أمرتني به } ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله: { أن اعبدوا } أي ما أمرتهم إلا بعبادة { الله } أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال: { ربي وربكم } أي أنا وأنتم في عبوديته سواء، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة، وهو من بدائع الأمثلة.
ولما فهم صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال: { وكنت عليهم } أي خاصة لا على غيرهم.
ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال معبراً بصيغة المبالغة: { شهيداً } أي بالغ الشهادة، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته { ما دمت فيهم } وأشار إلى الثناء على الله بقوله: { فلما توفيتني } أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي { كنت أنت } أي وحدك { الرقيب } أي الحفيظ القدير { عليهم } لا يغيب عليك شيء من أحوالهم، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات { وأنت على كل شيء } أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد { شهيد * } أي مطلع غاية الاطلاع، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم.