التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ
٥٥
وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٥٦
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٥٧
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
٥٨
-المائدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم. نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق: { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان! من يوالهم منكم - هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال: { من يرتد } ولو على وجه خفي - بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر { منكم عن دينه } أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه، فيبغضهم الله ويبغضونه، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، فالله غني عنهم { فسوف يأتي الله } اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه { بقوم } أي يكون حالهم ضد حالهم، يثبتون على دينهم، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان - رضي الله عنهم.
ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال: { يحبهم } فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب { ويحبونه } فيثبتون عليه، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال: { أذلة } وهو جمع ذليل؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان، كان في الحقيقة عزاً، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف: { على المؤمنين } أي لعلمهم أن الله يحبهم { أعزة على الكافرين } أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه؛ ثم علل ذلك بقوله: { يجاهدون } أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال: { في سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين.
ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد، فصلهم منهم بقوله: { ولا } أي والحال أنهم لا { يخافون لومة } أي واحدة من لوم { لائم } وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم, إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - أمر بالمعروف أو نهي عن منكر - كانوا كالمسامير المحماة، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم.
ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر: { ذلك } أي الذي تقدم من أوصافهم العالية { فضل الله } أي الحاوي لكل كمال { يؤتيه } أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد { من يشاء } أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { واسع } أي محيط بجميع أوصاف الكمال، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص { عليم * } أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره، وبكل ما يمكن علمه.
ولما نفى سبحانه ولايتهم بمعنى المحبة وبمعنى النصرة وبمعنى القرب بكل اعتبار، أنتج ذلك حصر ولاية كل من يدعي الإيمان فيه وفي أوليائه فقال: { إنما وليكم الله } أي لأنه القادر على ما يلزم الولي، ولا يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به سبحانه؛ ولما ذكر الحقيق بإخلاص الولاية له معلماً بأفراد المبتدأ أنه الأصل في ذلك وما عداه تبع، أتبعه من تعرف ولايته سبحانه بولايتهم بادئاً بأحقهم فقال: { ورسوله } وأضافة إليه إظهاراً لرفعته { والذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وأقروا به, ثم وصفهم بما يصدق دعواهم الإيمان فقال: { والذين يقيمون الصلاة } أي تمكيناً لوصلتهم بالخالق { ويؤتون الزكاة } إحساناً إلى الخلائق، وقوله: { وهم راكعون * } يمكن أن يكون معطوفاً على { يقيمون } أي ويكونون من أهل الركوع، فيكون فضلاً مخصصاً بالمؤمنين المسلمين، وذلك لأن اليهود والنصارى لا ركوع في صلاتهم - كما مضى بيانه في آل عمران، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإيتاء؛ وفي أسباب النزول أنها نزلت في عليّ رضي الله عنه، سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه. وجمع وإن كان السبب واحداً ترغيباً في مثل فعله من فعل الخير والتعجيل به لئلا يظن أن ذلك خاص به.
ولما كان التقدير: فمن يتول غيرهم فأولئك حزب الشيطان، وحزب الشيطان هم الخاسرون، عطف عليه: { ومن يتول الله } أي يجتهد في ولاية الذي له مجامع العز { ورسوله } الذي خُلقه القرآن { والذين آمنوا } وأعاد ذكر من خص الولاية بهم تبركاً بأسمائهم وتصريحاً بالمقصود، فإنهم الغالبون - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر ما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته فقال: { فإن حزب الله } أي القوم الذين يجمعهم على ما يرضي الملك الأعلى ما حزبهم أي اشتد عليهم فيه { هم الغالبون * } أي لا غيرهم، بل غيرهم مغلوبون، ثم إلى النار محشورون، لأنهم حزب الشيطان.
ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم: { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال: { لا تتخذوا الذين اتخذوا } أي بغاية الجد والاجتهاد منهم { دينكم } أي الذي شرفكم الله به { هزواً ولعباً } ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله: { من الذين }.
ولما كان المقصود بهم منح العلم، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي، بني للمجهول قوله: { أوتوا الكتاب } ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال: { من قبلكم } يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين.
ولما خص عم فقال: { والكفار } أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين، وكذا غيرهم، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب { أولياء } أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً.
ولما كان المستحق لموالاة شخص - إذا تركه ووالى غيره - يسعى في إهانته، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال: { واتقوا الله } من له الإحاطة الكاملة، فإن من والى غيره عاداه، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه { إن كنتم مؤمنين * } أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان.
ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين، خص روحه وخالصته وسره فقال: { وإذا ناديتم } أي دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى وهو المجتمع، فأجابه الباقون بغاية الرغبة، ومنه دار الندوة، أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين برفع صوته كلام من هو معهم في الندى بالقول فأجابوه بالفعل، فكان ذلك مناداة - هذا أصله، فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها فقال مضمناً له الانتهاء: { الى الصلاة } أي التي هي أعظم دعائم الدين، وموصل إلى الملك العظيم، وعاصم بحبلة المتين { اتخذوها } على ما لها من العظمة والجد والبعد من الهزء بغاية هممهم وعزائمهم { هزواً ولعباً } فيتعمدون الضحك والسخرية ويقولون: صاحوا كصياح العير - ونحو هذا، وبين سبحانه أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم فكأنهم لا عقول لهم، وذلك لأن تأملها - في التطهر لها وحسن حال فاعلها عند التلبس بها من التخلي عن الدنيا جملة والإقبال على الحضرة الإلهية، والتحلي بالقراءة لأعظم الكلام، والتخشع والتخضع لملك الملوك الذي لم تخف عظمته على أحد، ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع - بمجرده كافٍ في اعتقاد حسنها وجلالها وهيبتها وكمالها فقال: { ذلك } أي الأمر العظيم الشناعة { بأنهم قوم } وإن كانوا أقوياء لهم قدرة على القيام في الأمور { لا يعقلون * } أي ليست لهم هذه الحقيقة، ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق وضرب الناقوس بشيء لا يقاس، وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه، وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار، منه أنه جعل تسع عشرة كلمة، ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر، وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة رجاء أن يكون معتقدها رفيقاً لأحد عشر: العشرة المشهود لهم بالجنة، وقطبهم وقطب الوجود كله النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله أصولاً وفروعاً - كما بنت ذلك في كتابي "الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان".