التفاسير

< >
عرض

أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٤
مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٧٥
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٧٦
-المائدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من شأن العاقل أنه لا يقدم على باطل، فإن وقع ذلك منه وشعر بنوع ضرر يأتي بسببه بادر إلى الإقلاع عنه، تسبب عن هذا الإنذار - بعد بيان العوار - الإنكارُ عليهم في عدم المبادرة إلى التوبة إيضاحاً لأن معنى كفروا: داموا عليه، فقال: { أفلا يتوبون } أي يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده والوعيد الشديد { إلى الله } أي المتصف بكل وصف جميل { ويستغفرونه } أي يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من العار البين العوار؛ ولما كان التقدير: فالله تواب حكيم، عطف عليه قوله: { والله } ويجوز أن يكون التقدير: والحال أن المستجمع لصفات الكمال أزلاً وأبداً { غفور } أي بليغ المغفرة، يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب { رحيم * } أي بالغ الإكرام لمن أقبل إليه.
ولما أبطل الكفر كله بإثبات أفعاله من إرساله وإنزاله وغير ذلك من كماله، وأثبت التوحيد على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال، فكان ذلك دليلاً على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال, فكان ذلك دليلاً خاصاً بعد دليل عام، فقال تعالى على وجه الحصر في الرسلية رداً على من يعتقد فيه الإلهية واصفاً له بصفتين لا يكونان إلا لمصنوع مربوب: { ما المسيح } أي الممسوح بدهن القدس المطهر المولود لأمه { ابن مريم إلا رسول } وبين أنه ما كان بدعاً ممن كان قبله من إخوانه بقوله: { قد خلت من قبله الرسل } أي فما من خارقة له، وإلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن قبله كآدم عليه السلام في خلقه من تراب، وموسى عليه السلام في قلب العصى حية تسعى - ونحو ذلك.
ولما كفروا بأمه أيضاً عليهما السلام بين ما هو الحق في أمرها فقال: { وأمه صدّيقة } أي بليغة الصدق في نفسها والتصديق لما ينبغي أن يصدق، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء، ولذلك تكون من أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم في الجنة. وهذه الآية من أدلة من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى بيان ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات، وأنه من رفع واحداً منها فرق ذلك فقد أطراه، ومن نقصه عنه فقد ازدراه، فالقصد العدل بين الإفراط والتفريط باعتقاد أن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية.
ولما كان المقام مقام البيان عن نزولهما عن رتبة الإلهية، ذكر أبعد الأوصاف منها فقال: { كانا يأكلان الطعام } وخص الأكل لأنه مع كونه ضعفاً لازماً ظاهراً هو أصل الحاجات المعترية للإنسان فهو تنبيه على غيره، ومن الأمر الجلي أن الإله لا ينبغي أن يدنو إلى جنابه عجز أصلاً، وقد اشتمل قوله تعالى { وقال المسيح } وقوله { كانا يأكلان الطعام } [المائدة: 75] على أشرف أحوال الإنسان وأخسها، فأشرفها عبادة الله، وأخسها الاشتغال عنها بالأكل الذي هو مبدأ الحاجات.
ولما أوضح ما هو الحق في أمرهما حتى ظهر كالشمس بُعدُهما عما أدعوه فيهما، أتبعه التعجب من تمام قدرته على إظهار الآيات وعلى الإضلال بعد ذلك البيان فقال: { انظر كيف نبين لهم الآيات } أي نوضح إيضاحاً شافياً العلامات التي من شأنها الهداية إلى الحق والمنع من الضلال؛ ولما كان العمى عن هذا البيان في غاية البعد، أشار إليه بأداة التراخي فقال: { ثم انظر أنَّى } أي كيف ومن أين؛ ولما كان العجب قبولهم للصرف وتأثرهم به، لا كونه من صارف معين، بنى للمفعول قوله: { يؤفكون * } أي يصرفون عن الحق وبيان الطريق صرفَ من لا نور له أصلاً من أي صارف كان، فصرفهم في غاية السفول، وبيان الآيات في غاية العلو، فبينهما بون عظيم.
ولما نفى عنهما الصلاحية لرتبة الإلهية للذات، أتبعها نفي ذلك من حيث الصفات، فقال منكراً مصرحاً بالإعراض عنهم إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للإقبال عليهم: { قل } أي للنصارى أيها الرسول الأعظم { أتعبدون } ونبه على أن كل شيء دونه، وأنهم اتخذوهم وسيلة إليه بقوله: { من دون الله } ونبه بإثبات الاسم الأعظم على أن له جميع الكمال، وعبر عما عبدوه بأداة ما لا يعقل تنبيهاً على أنه سبحانه هو الذي أفاض عليه ما رفعه عن ذلك الحيز، ولو شاء لسلبه عنه فقال: { ما لا يملك لكم ضراً } أي من نفسه فتخشوه { ولا نفعاً } أي فترجوه، ليكون لكم نوع عذر أو شبهة، ولا هو سميع يسمع كل ما يمكن سمعه بحيث يغيث المضطر إذا استغاث به في أي مكان كان ولا عليم يعلم كل ما يمكن علمه بحيث يعطي على حسب ذلك، وكل ما يملك من ذلك فبتمليك الله له كما ملككم من ذلك ما شاء.
ولما نفى عنه ما ذكر تصريحاً وتلويحاً، أثبته لنفسه المقدسة كذلك فقال: { والله } أي والحال أن الملك الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال كله { هو } أي خاصة { السميع العليم * } وهو وحده الضار النافع، يسمع منكم هذا القول ويعلم هذا المعقد السيىء، وإنما قرن بالسميع العليم، دون البصير لإرادة التهديد لمن عبد غيره، لأن العبادة قول أو فعل، ومن الفعل ما محله القلب وهو الاعتقاد، ولا يدرك بالبصر بل بالعلم، والآية - كما ترى - من الاحتباك: دل بما أثبته لنفسه على سبيل القصر على نفيه في الجملة الأولى عن غيره، وبما نفاه في الجملة الأولى عن غيره على إثباته له - والله الموفق.