التفاسير

< >
عرض

قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ
٢٨
مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان القرين قد قال ما تقدم مريداً به - جهلاً منه - الخلاص من العذاب بإظهار أنه ليس بأوصاف هذه النفس، بل من كبار المؤمنين، فأجيب مقاله بإلقاء تلك النفس معللاً للأمر بإلقائها بما شمل هذا القرين، فتشوف السامع إلى ما يكون من حاله، وكانت العادة جارية أن من تكلم في شخص بما فيه مثله ولا سيما إن كان هو السبب فيه أو كان قد تكلم ذلك الشخص فيه، فكان قياس ذلك يقتضي ولا بد أن تقول تلك النفس القول فيها، وهذا عند الأمر بإلقائها: ربنا هو أطغاني: أجاب تعالى عند هذا التشوف بقوله: { قال قرينه } منادياً بإسقاط الأداة دأب أهل أهل القرب إيهاماً أنه منهم: { ربنا } أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم { ما أطغيته } أي أوقعته فيما كان فيه من الطغيان، فإنه لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك { ولكن كان } بجبلته وطبعه { في ضلال بعيد * } محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه، فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله، وإن حركته إليه أن فإنه لا يحتاج إلى أدنى تحريك فيثور له ثورة من هو مجبول مركوز في طباعه.
ولما كان كأنه قيل: بم يجاب عن هذا؟ وهل يقبل منه؟ قيل: لا { قال } أي الملك المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم في الأزل: { لا تختصموا } أي لا توقعوا الخصومة بهذا الجد والاجتهاد { لديَّ } أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير، وأعجب بما يدرك حق الإدراك، فقد أتم انكشاف ما كان يستغربه الخاصة بل خاصة الخاصة، ففات بانكشافها نفع إيمان جديد { وقد } أي والحال أنه قد { قدمت } أي تقدمت، أي أمرت وأوصيت قبل هذا الوقت موصلاً ومنهياً { إليكم } أي كل ما ينبغي تقديمه حتى لم يبق لبس ولا تركت لأحد حجة بوجه، وجعلت ذلك رفقاً بكم ملتبساً { بالوعيد * } أي التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفران والعدوان في الوقت الذي كانت فيه هذه الحضرة التي هي غيب الغيب ومستورة بستائر الكبرياء والعظمة وبل كان ما دونها من الغيب مستوراً، فكان الإيمان به نافعاً.
ولما كانت الأوقات كلها عنده سبحانه حاضرة، عبر سبحانه في تعليل ذلك بـ"ما" التي للحاضر دون "لا" التي للمستقبل فقال: { ما يبدل } أي يغير من مغير ما كان من كان بوجه من الوجوه بحيث يجعل له بدل فيكون فيه خلف { القول لدي } أي الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحاط بأمر غرابتها بأن من أشرك بي لا أغفر له وأغفر ما دون ذلك لمن أشاء، والعفو عن بعض المذنبين ليس تبديلاً لأن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وأنه مشروط بشرائط { وما أنا } وأكد النفي فقال: { بظلام } أي بذي ظلم { للعبيد * } لا القرين ولا من أطغاه ولا غيرهم، فأعذب من لا يستحق أو أعفو عمن قلت: إني لا أغفر له وأمرت جندي فعادوه فيّ، ولو عفوت عنه كنت مع تبديل القول قد سؤتهم بإكرام من عادوه فيّ ليس إلا.
ولما كان هذا التقاول مما يهول أمره ويقلع القلوب ذكره، صور وقته بصورة تزيد في ذلك الهول، وينقطع دون وصفها القول، ولا يطمع في الخلاص منها بقوة ولا حول، فقال ما معناه: يكون هذا كله { يوم } ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله: { نقول } أي على ما لنا من العظمة التي لا يسوغ لشيء أن يخفى عنها { لجهنم } دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة: { هل امتلأت } فصدق قولنا
{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [هود: 119] وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف، فتقول: لا، { وتقول } طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلىء لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً: { هل من مزيد * } أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك كما ورد في الحديث "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه" أي يضربها من جبروته بسوط إهانة فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزتك، ثم يستمرون بين دولتي الحر والزمهرير، وقد جعل الله سبحانه لذلك آية في هذه الدار باختلاف الزمان في الحر والبرد، فإذا أفرط الحر جاءت رحمته تعالى بالبرد وبالماء من السماء فامتزجا معاً فكان التوسط، وإذا أفرط البرد جاءت رحمته بالحر بواسطة الشمس، فامتزج الموجدان، فكان له توسط، وكل ذلك له دوائر موزونة بأقساط مقسطة معلومة بتقدير العزيز العليم - ذكر ذلك ابن برجان.
ولما ذكر النار وقدمها لأن المقام للإنذار، أتبعها دار الأبرار، فقال ساراً لهم بإسقاط مؤنة السير وطيّ شقة البعد: { وأزلفت } أي قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة { الجنة للمتقين } أي العريقين في هذا الوصف، فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه من الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا، وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم على غير هذا الوصف، فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. ولما كان القرب أمراً نسبياً أكده بقوله: { غير بعيد * } أي إزلافاً لا يصح وصفه ببعد.
ولما كان التقريب قد لا يدري الناظر ما سببه، قال ساراً لهم: { هذا } أي الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم { ما } أي الأمر الذي { توعدون } أي وقع الوعد لكم به في الدنيا، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية، وعبر عن الإزلاف بالماضي تحقيقاً لأمره وتصويراً لحضوره الآن ليكون المضارع من الوعد في أحكم مواضعه، وأبهم الأمر لأنه أكثر تشويقاً، والتعيين بعد الإبهام ألذ، فلذلك قال بياناً للمتقين، معيداً للجار لما وقع بينه وبين المبدل منه من الجملة الاعتراضية جواباً لمن كأنه قال: لمن هذا الوعد؟ فقال تعالى: { لكل أواب } أي رجاع إلى الاستقامة بتقوى القلب إن حصل في ظاهره عوج، فنبه بذلك على أنه من فضله لم يشترط في صحة وصفه بالتقوى دوام الاستقامة { حفيظ } أي مبالغ في حفظ الحدود وسار العهود بدوام الاستقامة والرجوع بعد الزلة، ثم أبدل من "كل" تتميماً لبيان المتقين قوله: { من خشي } ولم يعد الجارّ لأنه لا اعتراض قبله كالأول، ونبه على كثرة خشيته بقوله: { الرحمن } لأنه إذا خاف مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى، وقال القشيري: التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال: ولذلك لم يقل "الجبار" أو "القهار" قال: ويقال: الخشية ألطف من الخوف، فكأنها قريبة من الهيبة { بالغيب } أي مصاحباً له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة، بل استغنى بالبراهين القاطعة التي منها أنه مربوب، فلا بد له من رب، وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته.
ولما كان النافع من الطاعة الدائم إلى الموت، قال: { وجاء } أي بعد الموت { بقلب منيب * } أي راجع إلى الله تعالى بوازع العلم، ولم يقل: بنفس، لطفاً بالعصاة لأنهم وإن قصرت نفوسهم لم يكن لها صدق القدم فلهم الأسف بقلوبهم، وصدق الندم.