التفاسير

< >
عرض

وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٧
تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
٨
وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ
٩
وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
١٠
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ
١١

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل سبحانه على تمام قدرته وكمال علمه وغير ذلك من صفات الكمال بآية السماء، أتبع ذلك الدلالة على أنه لا يقال فيه داخل العالم ولا خارجه لأنه متصل به ولا منفصل عنه، نبه على ذلك بالدلالة على آية الأرض، وأخرها لأن السماء أدل على المجد الذي هذا سياقه، لأنها أعجب صنعة وأعلى علوّاً وأجل مقداراً وأعظم أثراً، وأن الأرض لكثرة الملابسة لها والاجتناء من ثمارها يغفل الإنسان عن دلالتها، بما له في ذلك من الصنائع والمنافع، فقال: { والأرض } أي المحيطة بهم { مددناها } أي جعلناها لما لنا من العظمة مبسوطة لا مسنمة. ولما كان الممدود يتكفأ، قال: { وألقينا } بعظمتنا { فيها رواسي } أي جبالاً ثوابت كان سبباً لثباتها، وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق، والمراسي تعالجونها أنتم من تحت.
ولما كان سكانها لا غنى لهم عن الرزق، قال ممتناً عليهم: { وأنبتنا } بما لنا من العظمة { فيها } وعظم قدرتها بالتبعيض فقال: { من كل زوج } أي صنف من النبات تزاوجه أشكاله بأرزاقكم كلها { بهيج * } أي هو في غاية الرونق والإعجاب، فكان - مع كونه رزقاً - متنزهاً.
ولما ذكر هذه الصنائع الباهرة، عللها بقوله: { تبصرة } أي جعلنا هذه الأشياء كلها، أي لأجل أن تنظروها بأبصاركم، ثم تتفكروا ببصائركم، فتعبروا منها إلى صانعها، فتعلموا ما له من العظمة { وذكرى } أي ولتتذكروا بها تذكراً عظيماً، بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أن صانعها لا يعجزه شيء، وأنه محيط بجميع صفات الكمال، لو ألم بجنابه شائبة من شوائب النقص لما فاض عنه هذا الصنع الغريب البديع.
ولما كان من لا ينتفع بالشيء كأنه عادم لذلك الشيء، قصر الأمر على المنتفع فقال: { لكل عبد } يتذكر بما له من النقص وبما دل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه. ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يزال كلما أعلاه عقله أسفله طبعه، فكان ربما ظن أنه لا يقبل إذا رجع، رغبة في الرجوع بقوله: { منيب * } أي رجاع عما حطه عنه طبعه إلى ما يعليه إليه عقله، فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود هذه الصفات إلى علم الذات.
ولما كان إنزال الماء أبهر الآيات وأدلها على أنه أجلّ من أن يقال: إنه داخل العالم أو خارجه، أو متصل به أو منفصل عنه، مع أن به تكوّن النبات وحصول الأقوات وبه حياة كل شيء، أفرده تنبيهاً على ذلك فقال: { ونزلنا } أي شيئاً فشيئاً في أوقات على سبيل التقاطر وبما يناسب عظمتنا التي لا تضاهى بغيب، بما له من النقل والنبوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المفقرة وعادت المنفعة مضرة { من السماء } أي المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر { ماء مباركاً } أي نافعاً جداً ثابتاً لا خيالاً محيطاً بجميع منافعكم.
ولما كان الماء سبباً في تكون الأشياء، وكان ذلك سبباً في انعقاده حتى يصير خشباً وحباً وعنباً، وغير ذلك عجباً، قال: { فأنبتنا } معبراً بنون العظمة { به جنات } من الثمر والشجر والزرع وغيره مما تجمعه البساتين فتجنّ - أي تستر - الداخل فيها. ولما كان القصب الذي يحصد فيكون حبه قوتاً للحيوان وساقه للبهائم، خصه بقوله: { وحب الحصيد } أي النجم الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير ونحوهما، وأومأ بالتقييد إلى أن هذه الحبوب أشرف من حب اللآلىء الذي ينبته الله من المطر لأنها لقيام النبتة؟ وتلك للزينة، ولما كان النخل من أعجبه ما يتكون منه مع ما له من المنافع التي لا يساويه فيها شجر، والطباق للرزع بالطول والقصر والاتساق بالاقتيات للآدميين والبهائم، قال: { والنخل باسقات } أي عاليات طويلات على جميع الأشجار المثمرة ذوات أثمار طيبة { لها } مع يبس ساقها { طلع نضيد * } أي مصفوف متراكم بعضه فوق بعض، وهو حشو طلعه، والطلع ذلك الخارج من أعلى النخلة كأنه فعلان مطبقان، والحمل النضيد بينهما، والطرف محدد، أو الطلع ما يبدو من ثمر النخل أول ظهورها، وذلك القشر يسمى الكفرى لتعطيته إياه على أحكم مما يكون وأوثق، والطلع يشبه ما للناقة المبسق من اللبا المتكون في ضرعها قبل النتاج، ثم يصير بعد اتحاده في البياض وهو طلع إلى الافتراق حال الينوع إلى أحمر وأصفر وأخضر وغير ذلك من الألوان الغريبة، والأوصاف العجيبة، وهي محيطة المنافع بالتفكه على عدة أنواع والاقتيات وغير ذلك، وطلعها مخالف لعادة أكثر الأشجار فإن ثمارها مفردة، كل حبة منفردة عن أختها.
ولما ذكر سبحانه بعض ما له في الماء من العظمة، ذكر له علة هي غاية في المنة على الخلق فقال: { رزقاً للعباد } أي أنبتنا به ذلك لأجل أنه بعض ما جعلناه رزقهم.
ولما كان ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث ولجميع صفات الكمال، أتبعه ما له من التذكير بالبعث بخصوصه فقال: { وأحيينا به } أي الماء بعظمتنا { بلدة } وسمها بالتاء إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى الثبات والخلو عنه، وذكر قوله: { ميتاً } للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها. ولما كان هذا خاصة من أوضح أدلة البعث، قال على سبيل النتيجة: { كذلك } أي مثل هذا الإخراج العظيم { الخروج * } الذي هو لعظمته كأنه مختص بهذا المعنى، وهو بعث الموتى من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا، لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأخضره وأزرقه إلى غير ذلك، وبين إخراج ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا، قال أبو حيان: ذكر تعالى في السماء ثلاثة: البناء والتزيين ونفي الفروج، وفي الأرض ثلاثة: المد وإلقاء الرواسي والإنبات، قابل المد بالبناء لأن المد وضع والبناء رفع، وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاز كل واحد منها - أي على سطح ما هو فيه, والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج، فلا شق فيها، ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله، وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة، وعلى ما اختلط من جنسين، فبعض الثمار فاكهة لا قوت، وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت.