التفاسير

< >
عرض

وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٣٨
فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
٣٩
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
٤٠
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ
٤١
مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ
٤٢
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ
٤٣
فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ
٤٤
فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ
٤٥
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٤٦
-الذاريات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قدم سبحانه أحق القصص الدالة على قسمه وما أقسم عليه بما فيها من خفاء الأسباب مع وجودها، ثم ما فيها من إنزال ما به الوعيد من السماء بالنار والماء الذي أشير إليه بالمقسمات، مع الفرقة بين المسلم والمجرم، أتبعها قصة من أيده بحاملات فيها مطر وبرد ونار مضطرمة، كما مضى بيانه في الأعراف، ثم بعد ذلك بريح فرقت البحر ونشفت أرضه ودخله فرعون والقبط، وهو واضح الأمر في أنه سبب لهلاكهم وهم لا يشعرون به، فقال عاطفاً على المقدر في قصة إبراهيم عليه السلام أو الظاهر في { وفي الأرض } أو على "في" التي في قوله { وتركنا فيها آية للذين يخافون } وهذا أقرب من غيره وأولى: { وفي موسى } أي في قصته وأمره آية على ذلك عظيمة { إذ أرسلناه } بعظمتنا { إلى فرعون } الذي كان قد أساء إلى إبراهيم عليه السلام بعد عظيم إحسانهم إله وإلى جميع قومه بما أحس إليهم يوسف عليه السلام { بسلطان مبين * } أي معجزات ظاهرة في نفسه منادية من شدة ظهورها بأنها معجزة، فكان فيها دلالة واضحة على صدق وعيده ومع ذلك فلم ينفعهم علمها ولذلك سبب عنه وعقب به قوله: { فتولى } أي كلف نفسه الإعراض بعد ما دعاه علمها إلى الإقبال إليها، وأشار إلى توليه بقوله: { بركنه } أي بسب ما يركن إليه من القوة في نفسه وبأعوانه وجنوده أو بجميع جنوده - كناية عن المبالغة في الإعراض، { وقال } معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر: { ساحر } ثم ناقض كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله: { أو مجنون * } أي لاجترائه عليّ مع ما لي من عظيم الملك بمثل هذا الذي يدعو إليه ويتهدد عليه.
ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء، قال تعالى محذراً للأعداء: { فأخذناه } أي أخذ غضب وقهر بعظمتنا بما استدرجناه به وأوهناه به من العذاب الذي منه سحاب حامل ماء وبرداً وناراً وصواعق { وجنوده } أي كلهم { فنبذناهم } أي طرحناهم طرح مستهين بهم مستخف لهم كما تطرح الحصيات { في اليم } أي البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه، فأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا { وهو } أي والحال أن فرعون { مليم * } أي آتٍ بما هو بالغ في استحقاقه الملامة، ويجوز أن يكون حالاً من "أليم" بمعنى أنه فعل بهم فعل اللائم من ألامه - إذا بالغ في عذله، وصار ذا لائمة أي لهم، من ألام - لازماً، وأن يكون مخففاً من لأم المهموز فيكون المعنى: فهو مصلح أي فاعل فعل المصلحين في إنجاء الأولياء وإغراق الأعداء بالالتئام والانطباق عليهم، قال في القاموس: اللوم العدل، لام لوماً وألامه ولومه للمبالغة، وألام: أتى ما يلام عليه أو صار ذا لائمة، ولأمه بالهمز كمنعه، نسبه إلى اللوم، والسهم: أصلحه كألامه ولأمه فالتأم، ولا يضر يونس عليه السلام أن يعبر في حقه بنحو هذه العبارة، فإن أسباب اللوم تختلف كما أن أسباب المعاصي تختلف في قوله
{ وعصوا رسله } [هود: 59] { وعصى آدم ربه } [طه: 121] وبحسب ذلك يكون اختلاف نفس اللوام ونفس المعاصي.
ولما أتم قصة من جمع له السحاب والماء والنار والريح، أتبعها قصة من أتاهم بريح ذارية لم يوجد قط مثلها، وكان أصلها موجوداً بين ظهرانيهم وهم لا يشعرون، بل قاربت الوصول إليهم وهم يظنونها مما ينفعهم: { وفي عاد } أي آية عظيمة { إذ } أي حين { أرسلنا } بعظمتنا { عليهم } إرسال علو وأخذ { الريح } فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تذرو الرمل وترمي بالحجارة على كيفية لا تطاق { العقيم * } أي التي لا ثمرة لها فلا تلقح شجراً ولا تنشىء سحاباً ولا تحمل مطراً ولا رحمة فيها ولا بركة فلذلك أهلكهم هلاك الاستئصال، ثم بين عقمها وإعقامها بقوله: { ما تذر } أي تترك على حال ردية، وأعرق في النفي فقال: { من شيء } ولما كان إهلاكها إنما هو بالفاعل المختار، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال: { أتت عليه } أي إتيان إرادة مرسلها، استعلاها على ظاهره وباطنه، وأما من أريدت رحمته كهود عليه السلام ومن معه رضي الله عنهم فكان لهم روحاً وراحة لا عليهم { إلا جعلته كالرميم * } أي الشيء البالي الذي ذهلته الأيام والليالي، فصيره البلى إلى حالة الرماد، وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض ودثر - قاله ابن جريج، وخرج بالتعبير بـ"تذر" هود عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، فإنهم تركتهم على حالة حسنة لم يمسهم منها سوء كما أشير إلى مثل ذلك بأداة الاستعلاء.
ولما تم ما اقتضاه سياق السورة من قصة أهل الريح الذارية، أتبعها قصة من أهلكوا بما يحمله السحاب من الريح وما تحمله الريح من صوت الصيحة الراجفة الماحقة فقال: { وفي ثمود } أي قوم صالح عليه السلام آية عظيمة كذلك { إذ } أي حين { قيل لهم } ممن لا يخلف المعياد: { تمتعوا } أي بلبن الناقة وغيره مما مكناكم فين من الزرع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور الذي أمرناكم به ولا تطغوا { حتى حين * } أي وقت ضربناه لآجالكم { فعتوا } أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتو، وهو التكبر والإباء { عن أمر ربهم } أي مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا الناقة وأرادوا قتل نبيه عليه السلام { فأخذتهم } بسبب عتوهم أخذ قهر وعذاب { الصاعقة } أي الصيحة العظيمة التي حملتها الريح، فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة، ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق، وقوله: { وهم ينظرون * } دال على أنها كانت في غمام، وكان فيها نار، ويجوز - مع كونه من النظر - أن يكون أيضاً من الانتظار، فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام، وجعل لهم في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه اليوم الرابع { فما } أي فتسبب عن ذلك أنه ما { استطاعوا } أي تمكنوا، وأكد النفي فقال: { من قيام } أي بعد مجيئها بأن عاجلتهم بإهلاكها عن القيام.
ولما كان الإنسان قد لا يتمكن من القيام لعارض في رجليه وينتصف من عدوه بما يرتبه من عقله ويدبره برأيه قال: { وما كانوا } أي كوناً ما { منتصرين } أي لم يكن فيهم أهلية للانتصار بوجه، لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة لأن تهيؤهم لذل سقط بكل اعتبار.
ولما أتم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإهلاك وهو الصاعقة، أتبعهم قصة من أهلكوا بما من شأنه الإحياء، وهو الماء الذي جل ما يشتمل عليه الحلامات التي أثارتها الذاريات، وقد كانوا موجودين في الأرض والسماء - وأسبابه مهيأة - وهم لا يحسون بشيء من ذلك، وأما عبادنا المؤمنون فهيأنا لهم أسباب النجاة من السفينة وغيرها، وأعلمناهم بها، فكان كل ما أردنا وقاله عنا أولياؤنا فقال مغيراً للأسلوب تنبياً على العظمة بنفسه الإهلاك لكونه بما من شأن الإحياء والإبقاء والتصرف في الأسباب: { وقوم } أي وأهلكنا قوم { نوح } على ما كان فيهم من الكثرة وقوة المحاولة والقيام بما يريدونه، ويجوز أن يكون معطوفاً على "فيها" أي وتركناهم آية، ويحسن هذا الإعراب أنهم هلكوا جميعاً وكانوا جميع أهل الأرض، وعم عذابهم جميع الأرض، كانوا لهم الآية، ويؤيد هذا الإعراب قراءة أي عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفاً على ضمير "فيها".
ولما كان إهلاكهم على عظمه وانتشاره في بعض الزمان، أدخل الجارّ فقال: { من قبل } أي قبل هذه الأمم كلها، ثم علل إهلاكهم بقوله: { إنهم كانوا } خلقاً وطبعاً، لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم { قوماً } أي أقوياء { فاسقين * } أي عريقين في الخروج عن حظيرة الدين.