التفاسير

< >
عرض

وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
٥٦
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
٥٧
إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ
٥٨
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ
٥٩
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٦٠
-الذاريات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا ربما أوهم أن سواهم غير مقدور عليهم، قال مؤكداً بالحصر دالاًّ على أنه هو الذي قسم الناس إلى طاغين ومؤمنين بالعطف على ما تقديره: فما حكم عليهم بذلك الضلال والهدى غيري، وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لاستخلاص المؤمنين وإقامة الحجة على الضالين: { وما خلقت الجن والإنس } الذين أكثرهم كافرون { إلا ليعبدون * } أي لينجروا تحت أقضيتي على وجه ينفعون به أنفسهم أو يضرونها لا لشيء يلحقني أنا منه شيء من نفع أو ضرر، فإني بنيتهم على العجز وأودعتهم نوازع الهوى، وركبت فيهم غرائز فهيأتهم لاتباع الهدى، فمن أطاع عقله كان عابداً لي فارّاً إليّ مع جريه تحت الإرادة، عبادة شرعية أمرية يستفيد بها الثواب، ومن أطاع الهوى كان عابداً لي مع مخالفته أمري عبادة إرادية قسرية يستحق بها العقاب، وكل تابع لهواه إذا حقق النظر علم أن الخير في غير ما هو مرتكبه، فما ألزمه ما هو فيه مع علمه بأن غيره خير منه إلا قهر إرادتي، فهذه عبادة لغوية، وذاك عبادة شرعية، وقد مر في آخر هود ما ينفع هنا، وهذا كله معنى قول ابن عباس: إلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً وكرهاً.
ولما حصر سبحانه خلقهم في إرادة العبادة، صرح بهذا المفهوم بقوله: { ما أريد منهم } أي في وقت من الأوقات، وعم في النفي بقوله: { من رزق } أي شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر، كما يفعل غيري من الموالي بعبيدهم من الاستكثار بغلاتهم والاستعانة بقواتهم لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ { وما أريد } أصلاً { أن يطعمون * } أي أن يرزقوني رزقاً خاصاً هو الإطعام، وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها الأكل، فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام. ثم لا يصدهم ذلك، وهذه الآية دليل على أن الرزق أعم من الأكل، والتعبير بالإرادة دالّ على ما قلت إنه مقصود بالعبادة. وهو الجري تحت الإرادة، تارة بموافقة الشرع وتارة بمخالفته.
ولما كان الاهتمام بأمر الرزق - وقد ضمنه سبحانه - شاغلاً عن كثير من العبادة، وكان الإنسان يظن أن الذي حصل له ما حواه من الرزق سعيه، قال حاصراً ذلك مؤكداً إزالة لتلك الظنون معللاً لافتاً الكلام إلى سياق الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره، نصاً على المراد وبالغاً من الإرشاد أقصى المراد: { إن الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن شوائب النقص { هو } أي لا غيره { الرزاق } أي على سبيل التكرار لكل حي وفي كل وقت. ثم وصفه بما يبين هوان ذلك فقال: { ذو القوة } أي التي لا تزول بوجه { المتين * } أي الشديد الدائم الشدة.
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم، ودل على ذلك حتى بجميع قصد أحوالهم على إرادته. وختم بقوته التي لا حد لها، سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم: { فإن للذين ظلموا } أي الذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها. ولما كان القسم على ما يوعدون بما يحمل المطر، عبر عن نصيبهم الذي قدره عليهم من ذلك بقوله: { ذنوباً } أي خطاً من العذاب طويل الشر، كأنه من طوله صاحب ذنب وهو على ذنوبهم { مثل ذنوب أصحابهم } أي الذين تقدم ظلمهم بتكذيب الرسل وهو في مشابهته له كالدلو الذي يساجل به دلو آخر، وذلك دليل واضح على أن ما يوعدون صادق، وأن الدين واقع { فلا يستعجلون * } أي يطلبوا أن آتيهم به قبل أوانه اللاحق به، فإن ذلك لا يفعله إلا ناقص، وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به، ولا بد أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل، لأنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم، وحينئذ تكون فيا له من تهديد ما أفظعه، ووعيد ما أعظمه وأوجعه، أمراً لا يدفعه دافع، ولا يمنع من وقوعه مانع، ولذلك سبب عنه قوله: { فويل } أي شر حال وعذاب يوجب الندب والتفجع { للذين كفروا } أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلاً إنكارها { من يومهم } إضافة إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين { الذي يوعدون * } في الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخرها على أولها بصدق الوعيد، وثبت بالدليل القطعي لك القسم الأكيد - والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.