التفاسير

< >
عرض

إِنَّا مُرْسِلُواْ ٱلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَٱرْتَقِبْهُمْ وَٱصْطَبِرْ
٢٧
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ
٢٨
فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ
٢٩
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٠
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ ٱلْمُحْتَظِرِ
٣١
-القمر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما علم من هذا أنه سبحانه فصل الأمر بينهم، تشوف السامع إلى علم ذلك فقال تعالى مستأنفاً دالاً بأنهم طالبوه بآية دالة على صدقه: { إنا } أي بما لنا من العظمة { مرسلو الناقة } أي موجدوها ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الحجارة دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام: مخصصين له من بين قومه، وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام: نريد أن نعرف المحق منا بأن ندعو آلهتنا وتدعو إلهك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق، فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا: ادع أنت، فقال: فما تريدون؟ قالوا: تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تبعر عشراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعد ما كذبوا في أن آلهتهم تجيبهم، وصدق هو صلى الله عليه وسلم في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها { فتنة لهم } أي امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها ويجيبهم عنها، وسبب سبحانه عن ذلك أمره بانتظارهم فيما يصنعون بعد إخراجهم لما توصلهم إليه عواقب الفتنة فقال: { فارتقبهم } أي كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم وهو عالم عليم فإنهم واصلون بأعمالهم إلى الداهية التي تسمى بأم العرقوب ليكونوا كمن جعل في رقبته، ودل بصيغة الافتعال على أنه يكون له منه أذى بالغ قبل انفصال النزاع فقال: { واصطبر * } أي عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم { ونبئهم } أي أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم، وهو أن الماء الذي يشربونه وهو ماء بئرهم { أن الماء قسمة بينهم } أي بين ثمود وبين الناقة، غلب عليها ضمير من يعقل، يعني إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه في الماء، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم، وتوسع الكل بدل الماء لبناً. ولما أخبر بتوزيع الماء، أعلم أنه على وجه غريب بقوله استئنافاً: { كل شرب } أي من ذلك وحظ منه ومورد البرو وقت يشرب فيه { محتضر * } أي أهل لما فيه من الأمر العجيب أن يحضره الحاضرون حضوراً عظيماً، وتتكلف أنفسهم لذلك لأنه صار في كثرته وحسنه كماء الحاضرة للبادية وتأهل لأن تعارضه حاضروه من حسنه ويرجعوا إليه وأن يجتمع عليه الكثير ويعودوا أنفسهم عليه.
ولما كان التقدير: فكان الأمر كما ذكرنا، واستمر الأمد الذي ضربنا فافتتنوا كما أخبرنا { فنادوا } بسبب الفتنة { صاحبهم } قذار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناقة وكذبنا فيها بوعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وهو أشقى الأولين { فتعاطى } أي أوقع بسبب ندائهم التعاطي الذي لا تعاطي مثله، فتناول ما لا يحق له أن يتناوله بسبب الناقة وهو سيفه بيده قائماً في الأمر الناشئ عن هذا الأخذ على كل حال، ورفع رأسه بغاية الهمة ومد يديه مداً عظيماً ورفعها وقام على أصابع رجليه حين عاطوه ذلك أي سألوه فيه فطاوعهم وتناول الناقة بذلك السيف غير مكترث ولا مبال { فعقر * } أي فتسبب عن هذا الجد العظيم أن صدق فيما أثبت لهم الكذب في الوعد بالإحسان إليها والأشر، وهو إيقاع العقر الذي ما كان في ذلك الزمان عقر مثله وهو عقر الناقة التي هي آية الله وإهلاكها.
ولما وقع كذبهم على هذا الوجه العظيم المبني على غاية الأشر، حقق الله تعالى صدقه في توعدهم على تقدير وقوع ذلك، فأوقع عذابهم سبحانه على وجه هو من عظمه أهل لأن يتساءل عنه، فنبه سبحانه على عظمة بإيراده في أسلوب الاستفهام مسبباً عن فعل الأشقى فقال: { فكيف كان } وحافظ على مقام التوحيد كما مضى فقال: { عذابي } أي كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه { ونذر * } أي إنذاري. ولما علم تفرغ ذهن السائل الواعي، استأنف قوله مؤكداً إشارة إلى أن عذابهم مما يستلذ وينجح به، وإرغاماً لمن يستبعد النصيحة الواحد بفعل مثل ذلك، وإعلاماً بأن القدرة على عذاب من كذب من غيرهم كهي على عذابهم فلا معنى للتكذيب: { إنا } بما لنا من العظمة { أرسلنا } إرسالاً عظيماً، ودل على كونه عذاباً بقوله: { عليهم صيحة } وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابهم بقوله تعالى: { واحدة } صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة، وتلاشى عندها صياحهم حين نادوا صاحبهم لعقر الناقة. ولما تسبب عنها هلاكهم قال: { فكانوا } كوناً عظيماً { كهشيم المحتظر * } أي محطمين كالشجر اليابس الذي جعله الراعي ومن في معناه ممن يجعل شيئاً يأوي إليه ويحتفظ به ويحفظ به ماشيته في وقت ما لا يقاله (؟) وهو حظيره أي شيء مستدير مانع في ذلك الوقت لمن يدخل إليه فهو يتهشم ويتحطم كثير منه وهو يعمله فتدوسه الغنم ثم تتحطم أولاً فأولاً، وكل ما سقط منه شيء فداسته الغنم كان هشيماً، وكأنه الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته.