التفاسير

< >
عرض

وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٣٢
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ
٣٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
٣٤
نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ
٣٥
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ
٣٦
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٧
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
٣٨
فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٩
-القمر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان التقدير: فلقد أبلغنا في الموعظة لكل من يسمع هذه القصة، عطف عليه قوله مؤكداً لأجل من يعرض عن هذا القرآن ويعلل إعراضه عنه بصعوبته: { ولقد يسرنا } أي على ما لنا من القدرة والعظمة { القرآن } أي الكتاب الجامع لكل خير، الفارق بين كل ملبس { للذكر } أي الحفظ والتذكير والتذكر وحصول النباهة به والشرف إلى الدارين. ولما كان هذا غاية في وجوب الإقبال عليه لجميع المتولين، قال: { فهل من مدكر * } أي ناظر فيه بسبب قولنا هذا بعين الإنصاف والتجرد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فنعينه عليه. ولما كان النذير: كأنه قال المنذرين لم يتعظوا به فزاد في وعظهم، وكانت قصة لوط عليه السلام مع قومه أعظم ما كان بعد ثمود مما تعرفه العرب بالأخبار ورؤية الآثار، ومع ما في قصتهم من تصوير الساعة من تبديل الأرض غير الأرض، استأنف قوله: { كذبت قوم لوط } أي وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه وإن كانوا في تكذيبهم هذا في ضعف وقوع النساء عن التجرد مما دل عليه تأنيث الفعل بالتاء وكذا ما قبلها من القصص { بالنذر * } أي الإنذار والإنذارات والمنذرين، ودل على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الإخبار عن عذابهم فقال: { إنا } أي بما لنا من العظمة { أرسلنا } ودل على أنه إرسال إهانة بقوله: { عليهم } ودل على هوانهم وبلوغ أمره كل ما يراد به بقوله: { حاصباً } أي ريحاً ترمي بحجارة هي دون ملء فكانت مهلكة لهم محرقة خاسفة مفرقة { إلا آل لوط } وهم من آمن به وكان بحيث إذا رأيته فكأنك رأيت لوطاً عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله والمشي على منواله في أقواله وأحواله وأفعاله.
ولما كان استثناؤهم مفهماً إنجاءهم مع التجويز لإرسال شيء عليهم غير مقيد بما ذكر، قال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: ما حالهم: { تجيناهم } أي تنجية عظيمة بالتدريج، وذكر أول الشروع لإنجاءهم فقال: { بسحر * } أي بآخر ليلة من الليالي وهي التي عذب فيها قومه، فكأنه تنكيره لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها، ولو قصدت سحر الليلة التي صبحت منها كان معرفة لا ينصرف، والسحر: السدس الأخير من الليل: الوقت الذي يكون فيه الإنسان لا سيما النساء والأطفال في غاية الغفلة بالاستغراق في النوم، ويفتح الله فيها أبواب السماء باذن الدعاء ليحصل منه الإجابة لأن الملوك إذا فتحوا أبوابهم كان ذلك إذناً للناس في الدخول لقضاء الحوائج، فالنزول وفتح الأبواب كناية عن ذلك - والله سبحانه وتعالى متعال عن حاجة إلى نزول أو فتح باب أو غير ذلك.
ولما كان المراد من الموعظين الطاعة التي هي سبب النجاة، فلذا قال ذاكراً للإنعام معبراً عنه بغاية المقصود منه معرفاً أن انتقامه عدل ومعافاته فضل، لأن أحداً لا يقدر أن يكافئ نعمه ولا نعمة منها، معللاً للنجاة: { نعمة من عندنا } أي عظيمة غريبة جداً لشكرهم، ولما كان كأنه قيل: هل هذا مختص بهم... الإنجاء من بين الظالمين وهو مختص بهم، أجاب بقوله: { كذلك } أي مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلنا جزاء لهم { نجزي } بقدرتنا وعظمتنا { من شكر * } أي أوقع الشكر بجميع أنواعه فآمن وأطاع ليس... بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كائناً من كان من سوقة أو سلطان جائر شجاع أو جبان، فاننا عليه بالإنجاء بعد هلاك عدوه، قال القشيري: والشكر على نعم الدفع أتم من الشكر على نعم النفع، ولا يعرف ذلك إلا كل موفق كيس فالآية من الاحتباك: ذكر الإنعام أولاً - لأنه السبب الحقيقي - دليلاً على حذفه ثانياً، والشكر ثانياً - لأنه السبب الظاهر - دليلاً على حذفه أولاً.
ولما كان التقدير دفعاً لعناد... استشراف السامع إلى ما كان من حاله صلى الله عليه وسلم معهم قبل العذاب: لقد بالغ في شكرنا بوعظهم ونصحهم ودعائهم إلنيا صرفاً لما أنعمنا به عليه من الرسالة في أتم مواضعه، عطف عليه إيماء إليه قوله، مؤكداً لأن تمادي المحذور من العذاب على الإقامة في موجبه يكاد أن لا يصدق: { ولقد أنذرهم } أي رسولنا لوط عليه السلام { بطشتنا } أي أخذتنا لهم المقرونة بشدة ما لنا من العظمة، ووحد إشارة إلى أنه لا يستهان بشيء من عذابه سبحانه بل الأخذة الواحدة كافية لما لنا من العظمة فهي غير محتاجة إلى التثنية، ودل على أن إنذاره كان جديراً بالقبول لكونه واضح الحقيقة بما سبب عن ذلك من قوله: { فتماروا } أي تكلفوا الشك الواهي { بالنذر * } أي الإنذار مصدراً والإنذارات أو المنذرين حتى أداهم إلى التكذيب، فكان سبباً للأخذ.
ولما كان ترك الاحتياط في إعمال الحيلة في وجه الخلاص من إنذار النذير عظيم العرافة في السفه دل على أنهم تجاوزوا ذلك إلى انتهاك حرمة النذير، فقال مقسماً لأن مثل ذلك لا يكاد يقع فلا يصدق من حكاه: { ولقد راودوه } أي زادوا في التكذيب الموجب للتعذيب أن عالجوا معالجة طويلة تحتاج إلى فتل ودوران { عن ضيفه } ليسلمهم إليهم وهم ملائكة في هيئة شباب مرد، وأفردوا وإن كان المراد الجنس استعظاماً لذلك لو كان الضيف واحداً { فطمسنا } أي فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا { أعينهم } فسويناها مع سائر الوجوه فصارت بحيث لا يرى لها شق، قال البغوي: هذا قول أكثر المفسرين، وذلك بصفقة صفقها لهم جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال القشيري: مسح بجناحيه على وجوههم فعموا ولم يهتدوا للخروج، وقال ابن جرير: والعرب تقول: طمست الريح الأعلام - إذا دفنتها بما يسفي عليها من التراب. فانطلقوا هراباً مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك وهم يقولون: عند لوط أسحر الناس، وما أدتهم عقولهم أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم مما حل بهم، قال القشيري: وكذلك أجرى الله سبحانه سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. ولما كان... أول عذابهم قال: { فذوقوا } أي فتسبب عن ذلك أن قال قائل عن الله بلسان القال أو الحال: أيها المكذبون ذوقوا بسبب تكذيبكم لرسلي في إنذارهم { عذابي ونذر * } أي وعاقبة إنذاري على ألسنة رسلي.
ولما كان بقاؤهم بعد هذا على حال كفرهم عجباً إذ العادة قاضية بأن من أخذ ارعوى ولو كان أفجر الخلق، وسأل العفو عنه صدقاً أو كذباً خداعاً ومكراً ليخلص مما هو فيه... بثباتهم على تكذيبهم حتى عذبوا على قرب العهد فقال مقسماً: { ولقد صبحهم } أي أتاهم في وقت الصباح، وحقق المعنى بقوله: { بكرة } أي في أول النهار العذاب، ولو كان أول نهارك الذي أنت به كان معرفة فامتنع... { عذاب } أي قلع بلادهم ورفعها ثم قلبها، وحصبها بحجارة من نار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان { مستقر * } أي ثابت عليهم غير مزايل بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار فقال لهم لسان الحال إن لم ينطلق لسان القال: { فذوقوا } بسبب أعمالكم { عذابي ونذر * }.