التفاسير

< >
عرض

يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ
٣٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٦
فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ
٣٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٨
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
٣٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٠
يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ
٤١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٢
هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ
٤٣
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ
٤٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٥
-الرحمن

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما سلب عنهم القدرة على النفوذ المذكور تنبيهاً على سلب جميع القدرة عنهم وعلى أن ما يقدرون عليه إنما هو بتقديره لهم نعمة منه عليهم، ولما كان منهم من بلغ الغاية في قسوة القلب وجمود الفكر فهو يحيل العجز عن بعض الأمور إلى أنه لم يجر بذلك عادة، لا إلى أنه سبحانه المانع من ذلك، فعمهم شيء من ذلك سطوته فقال { يرسل عليكما } أي أيها المعاندون، قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين تخرجون من القبور بسوقكم إلى المحشر { شواظ } أي لهب عظيم منتشر مع التضايق محيط بكم من كل جانب له صوت شديد كهيئته ذي الخلق الضيق الشديد النفس.
ولما كان الشواظ يطلق على اللهب الذي لا دخان فيه وعلى دخان النار وحرها وعلى غير ذلك، بينه بقوله: { من نار ونحاس } أي دخان هو في غاية الفظاعة فيه شرر متطاير وقطر مذاب، قال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها - انتهى. وجرها أبو عمرو وابن كثير عطفاً على { نار } ورفعه الباقون عطفاً على { شواظ }.
ولما كان ذلك ممكناً عقلاً وعادة، وكانوا عارفين بأنهم لو وقعوا في مثل ذلك لم يتخلصوا منه بوجه، سبب عنه قوله: { فلا تنصران * } قال ابن برجان: هذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
"يخرج عنق من نار فيقول بكل جبار عنيد فيلتقطهم من بين الجمع لقط الحمام حب السمسم، ويغشي المجرمين دخان جهنم من بين المؤمنين ولا يضرهم، وآية الشواظ وعنق النار هنالك صواعق ما هنا وبروقه والنار المعهودة" .
ولما كان التهديد بهذا لطفاً بهم فهو نعمة عليهم والعفو عن المعالجة بإرسالة لذلك، سبب عنه قوله: { فبأيِّ آلاء ربكما } أي المربي لكما بدفع البلايا وجلب المنافع { تكذبان * } أبنعمة السمع من فوق أو غيرها، ألم يكن لكم فيما شهدتموه في الدنيا من دلائل ذلك وآياته ما يوجب لكم الإيمان. ولما كان هذا مما لم تجر عادة بعمومه وإن استطردت بجريانه منه في أشياء منه في أماكن متفرقة كأشخاص كثيرة، بين لهم وقته بقوله: { فإذا } أي فيتسبب عن هذا الإرسال إنه إذا { انشقت السماء } من هوله وعظمته فكانت أبواباً لنزول الملائكة وغيرهم، وغير ذلك من آيات الله { فكانت } لما يصيبها من الحر { وردة } أي حمراء مشرقة من شدة لهيبه، وقال البغوي: كلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى حمرة وصفرة. { كالدهان } أي ذائبة صافية كالشيء الذي يدهن به أو كالأديم الأحمر والمكان الزلق، وآية ذلك في الدنيا الشفقان عند الطلوع وعند الغروب، وجواب { إذا } محذوف تقديره: علمتم ذلك علماً شهودياً أو فما أعظم الهول حينئذ ونحو ذا أن يكون الجواب شيئاً دلت عليه الآيات الآتية نحو: فلا يسأل أحد إذ ذاك عن ذنبه، وحذفه أفخم ليذهب الوهم فيه كل مذهب.
ولما كان حفظ السماء عن مثل ذلك بتأخير إرسال هذا وغيره من الأسباب وجعلها محل الروح والحياة والرزق من أعظم الفواضل قال مسبباً عنه: { فبأيِّ آلاء ربكما } أي المربي لكما هذا التدبير المتقن { تكذبان * } أبنعمة السمع من تحت أو غيرها وليس شيء بما أخبرتكم به من أحوال الآخرة إلا قد أقمت لكم في الدنيا ما تهتدون به إلى العلم بكونه. ولما كان يوم القيامة ذا ألوان كثيرة ومواقف مهولة طويلة شهيرة تكون في كل منها شؤون عظيمة وأمور كبيرة، ذكر بعض ما سببه هذا الوقت من التعريف بالعاصي والطائع بآيات جعلها الله سبباً في علمها فقال: { فيومئذ } أي فسبب عن يوم انشقت السماء لأنه { لا يسئل } سؤال تعرف واستعلام بل سؤال تقريع وتوبيخ وكلام، وذلك أنه لا يقال له: هل فعلت كذا؟ بل يقال له: لم فعلت كذا، على أنه ذلك اليوم طويل، وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه وتارة لا يسأل، والأمر في غاية الشدة، وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً، فقد مضى في الفاتحة أن اليوم عبارة عن وقت يمتد إلى انقضاء أمر مقدر فيه ظاهر من ليل أو نهار أو غيرهما لقوله تعالى
{ { إلى ربك يومئذ المساق } [القيامة: 30] أي يوم إذا بلغت الروح التراقي وهو لا يختص بليل ولا نهار، وبناه للمفعول تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن شأن المعترف بالذنب لا يكون خاصاً بعهد دون عهد بل يعرفه كل من أراد علمه، وأضمر قبل الذكر لما هو مقدم في الرتبة ليفهم الاختصاص فوجد الضمير لأجل اللفظ فقال: { عن ذنبه } أي خاصة وقد سئل المحسن عن حسنته سؤال تشريف له وتنديم لمن دونه.
ولما كان الإنس أعظم مقصود بهذا، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، وكان التعريف بالشاهد المألوف أعظم في التعريف، وكان علم أحوال الشيء الظاهر أسهل، قدمهم فقال: { إنس } ولما كان لا يلزم من علم أحوال الظاهر علم أحوال الخفي، بين أن الكل عليه سبحانه هين فقال: { ولا جان * } ولما كان هذا التمييز من أجل النعم لئلا يؤدي الالتباس إلى ترويع بعض المطيعين عاملاً أو نكاية بالسؤال عنه قال: { فبأيِّ آلاء ربكما } أي الذي ربى كلاًّ منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه { تكذبان * } أبنعمة الشم من الأمام أم من غيرها.
ولما كان الكلام عاماً عرف انه خاص بتعرف المجرم من غيره دون التعزير بالذنب أو غيره من الأحوال فقال معللاً لعدم السؤال: { يعرف } أي لكل أحد { المجرمون } أي العريقون في هذا الوصف { بسيماهم } أي العلامات التي صور الله ذنوبهم فيها فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة، وظاهرة الدلالة عليهم كما يعرف أن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذلك النهار ونحوهما لغير الأعمى، وتلك السيما - والله أعلم - زرقة العيون وسواد الوجوه والعمى والصمم والمشي على الوجوه ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم من بياض الوجوه وإشراقها وتبسمها، والغرة والتحجيل ونحو ذلك، وسبب عن هذه المعرفة قوله مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أي آخذ كان { فيؤخذ بالنواصي } أي منهم وهي مقدمات الرؤوس { والأقدام * } بعد أن يجمع بينهما كما أنهم كانوا هم يجمعون ما أمر الله به أن يفرق، ويفرقون ما أمر الله به أن يجمع، فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار.
ولما كان ذلك نعمة لا يقام بشكرها لكل من يسمعها لأن كل أحد ينتفي من الإجرام ويود للمجرمين عظيم الانتقام، سبب عنه قوله: { فبأيِّ آلاء ربكما } أي النعم الكبار من الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم { تكذبان * } أبنعمة الشم من الوراء أم بغيرها مما يجب أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل.
ولما كان أخذهم على هذا الوجه مؤذناً بأنه يصير إلى خزي عظيم، صرح به في قوله، بانياً على ما هدى إليه السياق من نحو: أخذاً مقولاً فيه عند وصولهم إلى محل النكال على الحال التي ذكرت من الأخذ بنواصيهم وأقدامهم، { هذه } أي الحفرة العظيمة الكريهة المنظر "القريبة منكم" الملازمة للقرب لكم { جهنم التي يكذب } أي ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة
{ ولو ردوا } [الأنعام:28] - إلى الدنيا - بعد إدخالهم إياها - { لعادوا لما نهوا عنه } [الأنعام: 28] { بها المجرمون * } أي العريقون في الإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله به، وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاظة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور، قال ابن برجان: وقرأ عبد الله "هذه جهنم التي كنتم بها تكذبان فتصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان" ثم استأنف ما يفعل بهم فيها فقال: { يطوفون بينها } أي بين دركة النار التي تتجهمهم { وبين حميم } أي ماء حار هو من شدة حرارته ذو دخان.
ولما كان هذا الاسم يطلق على البارد، بين أمره فقال: { آن } أي بالغ حره إلى غاية ليس وراءها غاية، قال الرازي في اللوامع: وقيل: حاضر، وبه سمي الحال بالآن لأنه الحاضر الموجود، فإن الماضي لا تدارك له والمستقبل أمل وليس لنا إلا الآن، ثم "الآن" ليس بثابت طرفة عين، لأن الآن هوالجزء المشترك بين زمانين، فهم دائماً يترددون بين عذابي النار المذيبة للظاهر والماء المقطع بحره للباطن لا يزال حاضراً لهم تردد الطائف الذي لا أول لتردده ولا آخر.
ولما كانت عذاب المجرم - القاطع لما من شأنه أن يكون متصلاً - من أكبر النعم وأسرها لكل أحد حتى لمن سواه من المجرمين، سبب قوله: { فبأي آلاء ربكما } أي المحسن إليكما أيها الثقلان بإهلاك المجرم في الدارين وإنجاء المسلم مما أهلك به المجرم لطفاً بالمهددين ليرتدعوا وينزجروا عما يكون سبب إهلاكهم هم ومن والاهم { تكذبان * } أبنعمة الشم من اليمين أمن من غيرها مما أراكم من آياته، وظاهر عليكم من بيناته، في السماوات والأرض، وما أراكم من مطالع الدنيا من الشمس التي هي آية النهار والقمر الذي هو آية الزمهرير، وغير ذلك من آياته المحكمة المرئية المسموعة، وقد كررت هذه الآية عقب ذكر النار وأهوالها سبع مرات تنبيهاً على استدفاع أبوابها السبعة كما مضى - والله المستعان.