التفاسير

< >
عرض

كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ
٥٨
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٥٩
هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ
٦٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦١
وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ
٦٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٣
مُدْهَآمَّتَانِ
٦٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٥
-الرحمن

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل ما تقدم من وصف المستمتع بهن بالعزة والنفاسة، زاده على وجه أفاد أنه يكون بهن غاية ما يكون من سكون النفس وقوة القلب وشدة البدن واعتدال الدم وغير ذلك من خواص ما شبههن به فقال: { كأنهن الياقوت } الذي هو في صفاته بحيث يشف عن سلكه وهو جوهر معروف، قال في القاموس: أجوده الأحمر الرماني نافع للوسواس والخفقان وضعف القلب شرباً ولجمود الدم تعليقاً: { والمرجان * } في بياضه، وصغار الدر أنصع بياضاً، قال أبو عبد الله القزاز: والمرجان صغار اللؤلؤ، وهذا الذي يخرج من نبات البحر أحمر معروف - انتهى. وقد يستفاد من ذلك أن ألوانهن البياض والحمرة على نوع من الإشراب هو في غاية الإعجاب من الشفوف والصفاء، وهو مع ذلك ثابت لا يعتريه تغير ليطابق الحديث الذي فيه "يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة" وقال أبو حيان: شبههن بهما فيما يحسن التشبيه به فالياقوت في املاسه وشفوفه والمرجان في املاسه وجمال منظره { فبأيِّ آلاء ربكما } أي النعم الغريبة البالغة في الحسن من المالك الملك المربي ببدائع التربية { تكذبان * } أبنعمة اللمس من جهة اليسرى أم غيرها مما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهن من تشبيه شيء بشيئين لبلوغ الأمر في الحسن إلى حد لا يساويه فيه شيء واحد ليشبه به، فهو كما قيل: بيضاء في دعج صفراء في نعج كأنها فضة قد شابها ذهب، وقد جعل سبحانه الأشياء الشفافة مثلاً لذلك وأنت ترى بعض الأجسام يكاد يرى فيه الوجه بل في سواد العين أعظم غرة حيث يرى فيه الوجه فإن السواد منشأ الظلام.
ولما كان ألذ ما أفاده الإنسان من النعم ما كان تسبب منه، قال ساراً لهم بذلك مع ما فيه من لذة المدح لا سيما والمادح الملك الأعلى، معظماً له بسياق الاستفهام المفيد للإثبات بعد النفي المفيد للاختصاص على وجه الإنكار الشديد على من يتوهم غير ذلك: { هل جزاء الإحسان } أي في العمل الكائن من الإنس أو الجن أو غيرهم { إلا الإحسان * } أي في الثواب، فهذا من المواضع التي أعيدت فيها المعرفة والمعنى مختلف، روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة" وذلك جزاء إحسان العبد في العمل في مقابلة إحسان ربه إليه بالتربية { فبأيِّ آلاء ربكما } أي النعم العظيمة الحسن من السيد الكريم العظيم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال { تكذبان * } أبنعمة اللمس من جهة الفوق أم غيرها مما جعله الله سبحانه مثالاً في أن من أحسن قوبل بمثل إحسانه، وهذه الآية ختام ثمان آيات حاثة على العمل الموصل إلى الثمانية الأبواب الكائنة لجنة المقربين - والله الهادي.
ولما كان قد علم مما ذكر أول هذا الكلام من الخوف مع ذكر وصف الإكرام، وآخره من ذكر الإحسان أن هذا الفريق محسنون، وكان من المعلوم أن العاملين طبقات، وأن كل طبقة أجرها على مقدار أعمالها، اقتضى الحال بيان ما أعد لمن دونهم: { ومن دونهما } أي من أدنى مكان، رتبة مما تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين { جنتان * } أي لكل واحد لمن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين وهم أصحاب اليمين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: دونهما في الدرج، وجعل ابن برجان الأربع موزعة بين الكل، وأن تخصيص هذه العدة إشارة إلى أنها تكون جامعة لما في فصول الدنيا الأربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف، وفسر بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
"جنتان من ذهب أوتيتهما وما فيهما وجنتان من فضة أوتيتهما وما فيهما" ثم جوز أن يكون المراد بالدون الأدنى إلى الإنسان، وهو البرزخ، فتكون هاتان لأهل البرزخ كما كان { وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } من عذاب القبر { فبأيِّ آلاء ربكما } أي المحسن بنعمه السابغة إلى الأعلى ومن دونه { تكذبان * } أبنعمة اللمس من جهة التحت أم غيرها مما جعله الله في الدنيا مثالاً لهذا من أن بعض البساتين أفضل من بعض إلى غير ذلك من أنواع التفضيل.
ولما كان ما في هاتين من الماء دون ما في الباقيتين، فكان ربما ظن أن ماءهما لا يقوم بأعلى كفايتهما قال: { مدهامتان * } أي خضراوان خضرة تضرب من شدة الري إلى السواد، من الدهمة، قال الأصبهاني: الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وفي الأوليين الأشجار والفواكه { فبأيِّ آلاء ربكما } أي نعم المحسن إلى العالي منكما ومن دونه بسعة رحمته { تكذبان * } أبنعمة الذوق من جهة الأمام أم غيرها مما جعله مثالاً لذلك من جنان الدنيا الكثيرة الري وغيره.