التفاسير

< >
عرض

لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ
٧٠
أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ
٧١
أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ
٧٢
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ
٧٣
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٧٤
فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ
٧٥
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
٧٦
-الواقعة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الجواب: أنت وحدك فعلت ذلك على غناك عن الخلق بما لك من الرحمة وكمال الذات والصفات، قال مذكراً بنعمة أخرى: { لو نشاء } أي حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به. ولما كانت صيرورة الماء ملحاً أكثر من صيرورة النبت حطاماً، ولم يؤكد لذلك وللتنبيه على أن السامعين لما مضى التوقيف على تمام القدرة صاروا في حيز المعترفين فقال تعالى: { جعلناه } أي بما تقتضيه صفات العظمة { أجاجاً } أي ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به. ولما كان هذا مما لا يساغ لإنكاره، سبب عنه على سبيل الإنكار والتحضيض قوله: { فلولا تشكرون * } أي فهل لا ولم لا تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الذي أوجده لكم ومكنكم منه وجعله ملائماً لطباعكم مشتهى لنفوسكم نافعاً لكم في كل ما ترونه.
ولما كانت النار سبباً لعنصر ما فيه الماء فيتحلب فيتقاطر كما كان الماء سبباً لتشقيق الأرض بالزرع، ولم يكن لمخلوق قدرة على التول بنوع سبب، أتبعه بما كما أتبع الزرع بالماء لذلك ولبيان القدرة على ما لا سبب فيه لمخلوق في السفل كما كان إنزال الماء عرياً عن سنتهم في العلو، فقال مسبباً عما مضى تنبيهاً على أنه أهلهم للتأمل في مصنوعاته والتبصر في عجائب آياته فقال: { أفرءيتم } أي أخبروني هل رأيتم بالأبصار والبصائر ما تقدم فرأيتم { النار } ولما كان المراد ناراً مخصوصة توقفهم على تمام قدرته وتكشف لهم ذلك كشفاً بيناً بإيجاد الأشياء من أضدادها فقال: { التي تورون * } أي تستخرجون من الزند فتوقدون به سواء كان الزند يابساً أو أخضر بعد أن كانت خفية فيه لا يظن من لم يجرب ذلك أن فيه ناراً أصلاً، فكان ذلك مثل التورية التي يظهر فيها شيء ويراد غيره، ثم صار بعد ذلك الخفاء إلى ظهور عظيم وسلطة متزايدة وعظمة ظاهرة تحرق كل ما لا بسها حتى ما خرجت منه، والعرب أعرف الناس بأمر الزند، وذلك أنهم يقطعون غصناً من شجر المرخ وآخر من العفار، ويحكون أحدهما على الآخر فتتقدح منها النار على أن النار في كل شجر، وإنما خص المرخ والعفار لسهولة القدح منهما، وقد قالوا: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.
ولما كان هذا من عجائب الصنع، كرر التقرير والإنكار تنبيهاً عليه فقال: { ءأنتم أنشأتم } أي اخترعتم وأوجدتم وأودعتم وأحييتم وربيتم وأوقعتم { شجرتها } أي المرخ والعفار التي تتخذون منها الزناد الذي يخرج منه، وأسكنتموها النار مختلطة بالماء الذي هو ضدها وخبأتموها في تلك الشجرة لا يعدو واحد منها على الآخر مع المضادة فيغلبه حتى يمحقه ويعدمه { أم نحن } أي خاصة، وأكد بقوله: { المنشئون * } أي لها بما لنا من العظمة على تلك الهيئة، فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون من الشجرة الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها في كيفيتها، كان أقدر على إعادة الطرواة والغضاضة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس وبلي، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في أخواتها سواء.
ولما كان الجواب قطعاً: أنت وحدك، قال دالاًّ على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر: { نحن } أي خاصة { جعلناها } بما اقتضته عظمتنا، وقدم من منافعها ما هو أولى بسياق البعث الذي هو مقامه فقال: { تذكرة } أي شيئاً تتذكرونه وتتذكرون به تذكراً عظيماً جليلاً عن كل ما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك مما ننيره لأولي البصائر والفهوم من العلوم، قال ابن برجان: فوزان قدح الزناد من الشجر، والزناد وزان الصيحة بهم ووزان إنشائه الأجسام وزان إنشائه الشجرة النار، ويتذكر بإنشائها في الشجر إنشاء الحياة في الأجسام وبإنشائها من غيبها أن النار الكبرى في غيب ما نشاهده، وهذا من آثار كونها في الجو - انتهى. وعلق بها سبحانه كثيراً من أسباب المعاش التي لا غنى عنها ليكون مذكراً لهم بما أوقدوا به حاضراً دائماً فيكون أجدر باتعاظهم { ومتاعاً } أي إنشاءً وبقاءً وتعميراً ونفعاً وإيصالاً إلى غاية المراد من الاستضائة والاصطلاء والإنضاج والتحليل والإذابة والتعقيد والتكليس، وهروب السباع وغير ذلك، والمراد أنها سبب لجميع ذلك { للمقوين } أي الجياع الذي أقوت بطونهم - أي خلت - من الفقر والإغناء من النازلين بالأرض القواء، والقواء بالكسر والمد أي القفر الخالية المتباعدة الأطراف البعيدة من العمران، وكل آدمي مهيأ للقواء فهو موصوف به وإن لم يكن حال الوصف كذلك، وقال الرازي: أقوى من الأضداد: اغتنى وافتقر، وقال أبو حيان: وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب، والنار من أعظم الدلائل على البعث إذ فيها انتقال من شيء إلى شيء إحداث شيء من شيء، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه - انتهى.
ولما دل سبحانه في هذه الآيات على عجائب القدرة وغرائب الصنع، فبدأ بالزرع وختم بالنار والشجر، وأوجب ما نبه التذكر لأمرها والتبصر في شأنها أنها من أسباب ما قبلها، وأنه سبب لها لكونه سبباً لها لإثبات ما هي له، وكان مجموع ذلك إشارة إلى العناصر الأربعة، قال ابن برجان: إلاّ أن الماء والأرض لخلق الأركان، والأخلاق والصفات للهواء والنار، وكان ذلك من جميع وجوهه أمراً باهراً، أشار إلى زيادة عظمته بالأمر بالتنزيه مسبباً عما أفاد ذلك، فقال معرضاً عمن قد يلم به الإنكار مقبلاً على أشرف خلقه إشارة إلى أنه لا يفهم هذا المقام حق فهمه سواه ولا يعمل به حق عمله غيره: { فسبح } أي أوقع التنزيه العظيم عن كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة إلى حد المحسوس تسبيح متعجب من آثار قدرته الدالة على تناهي عظمته وتسبيح شكر له وتعظيم له وإكبار وتنزيه عما يقول الجاحدون وتعجيب منهم مقتدياً بجميع ما في السماوات والأرض، ومن أعجب ذلك أنه سخر لنا في هذه الدار جهنم، قال ابن برجان: جعل منها بحرارة الشمس جنات وثمرات وفواكه وزروع ومعايش.
ولما كان تعظيم الاسم أقعد في تعظيم المسمى قال: { باسم } أي متلبساً بذكر اسم { ربك } أي المحسن بعد التربية إليك بهذا البيان الأعظم بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك، وأثبتوا ألف الوصل هنا لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة منها وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه، وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، وكذا لا تحذف الألف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة من الأسماء لما تقدم من العلة.
ولما كان المقام للتعظيم قال: { العظيم * } الذي ملأ الأكوان كلها عظمة، فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزهاً عن أن تلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، قال القشيري: وهذه الآيات التي عددها سبحانه تمهيد لسلوك طريق الاستدلال وكما في الخبر
"تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" هذه الفكرة التي نبه الله عليها.
ولما كان من العظمة الباهرة ما ظهر في هذه السورة من أفانين الإنعام في الدارين، وبدأ بنعمة الآخرة لكونها النتيجة، ثم دل عليها بإنعامه في الدنيا فكان تذكيراً بالنعم لتشكر، ودلالة على النتيجة لتذكر، وفي كل حالة تستحضر فلا تكفر، فوصلت الدلالة إلى حد هو أوضح من المحسوس وأضوأ من المشموس، وكان مع هذه الأمور الجليلة في مظهر أعجز الخلائق على أن يأتوا بمثله من كل وجه، أما من جهة الجواب عن تشبههم وتعنتهم فلكونه يطابق ذلك مطابقة لا يمكن أن يكون شيء مثلها، ويزيد على ذلك بما شاء الله من المعارف من غير أن يدع لبساً، وأما من جهة المفردات فلكونها النهاية في جلالة الألفاظ ورشاقة الحروف وجمع المعاني، فيفيد ذلك أنه لا تقوم كلمة أخرى مقام كلمة منه أصلاً، وأما من جهة التركيب فلكون كل كلمة منها أحق في مواضعها بحيث إنه لو قدم شيء منها أو أخر لاختل المعنى المراد في ذلك السياق بحسب ذلك المقام، وأما من جهة الترتيب في الجمل والآيات والقصص في المبادئ والغايات فلكونه مثل تركيب الكلمات، كل جملة منتظمة بما قبلها انتظام الدر اليتيم في العقد المحكم النظيم، لأنها إما أن تكون علة لما تلته أو دليلاً أو متممة بوجه من الوجوه الفائقة على وجه ممتع الجناب جليل الحجاب لتكون أحلى في فمه، وأجلى بعد ذوقه في نظمه وسائر علمه، فكان ثبوت جميع ما أخبر به على وجه لا مغتمر فيه ولا وقفة في اعتقاد حسنه، فثبت أن الله تعالى أرسل الآتي بهذا القرآن صلى الله عليه وسلم بالهدى وبالحق، لا أنه آتاه كل ما ينبغي له، فآتاه الحكمة وهي البراهين القاطعة واستعمالها على وجوهها، والموعظة الحسنة، وهي الأمور المرققة للقلوب المنورة للصدور، والمجادلة التي هي على أحسن الطرق في نظم معجز موجب للإيمان، فكان من سمعه ولم يؤمن لم يبق له من الممحلات إلا أن يقول: هذا البيان ليس لظهور المدعى وثبوته بل لقوة عارضة المدعي وقوته على تركيب الأدلة وصوغ الكلام وتصريف وجوه المقال، وهو يعلم أنه يغلب لقوة جداله لا لظهور مقاله، كما أنه ربما يقول أحد المتناظرين عند انقطاعه لخصمه: أنت تعلم أن الحق معي لكنك تستضعفني ولا تنصفني، فحينئذ لا يبقى للخصم جواب إلا الإقسام بالإيمان التي لا مخرج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف، وإنما يفزع إلى الإيمان لأنه لو أتى بدليل آخر لكان معرضاً لمثل هذا، فيقول: وهذا غلتني فيه لقوة جدالك وقدرتك على سوق الأدلة ببلاغة مقالك، فلذلك كانوا إذا أفحمهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه يريد أن يتفضل علينا فيما نعلم خلافه، فلم يبق إلا الإقسام، فأنزل الله أنواعاً من الأقسام بعد الدلائل العظام، ولهذا كثرت الآيات في أواخر القرآن، وفي السبع الأخيرة خاصة أكثر، فلذلك سبب عن هذه الأدلة الرائعة والبراهين القاطعة قوله: { فلا أقسم } بإثبات "لا" النافية، إما على أن يكون مؤكدة بأن ينفي ضد ما أثبته القسم، فيجمع الكلام بين إثبات المعنى المخبر به ونفي ضده، وإما على تقدير أن هذا المقام يستحق لعظمته وإنكارهم له أن يقسم عليه بأعظم من هذا على ما له من العظمة لمن له علم - والله أعلم.
ولما كان الكلام السابق في الماء الذي جعله سبحانه مجمعاً للنعيم الدنيوية الظاهرة وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء على منهاج دبره وقانون أحكمه، وجعل إنزال القرآن نجوماً مفرقة وبوارق متلالئة متألقة قال: { بمواقع النجوم * } أي بمساقط الطوائف القرآنية المنيرة النافعة المحيية للقلوب، وبهبوطها الذي ينبني عليه ما ينبني من الآثار الجليلة وأزمان ذلك وأماكنه وأحواله، وبمساقط الكوكب وأنوائها وأماكن ذلك وأزمانه في تدبيره على ما ترون من الصنع المحكم والفعل المتقن المقوم، الدال بغروب الكواكب على القدرة على الطي بعد النشر والإعدام بعد الإيجاد، وبطلوعها الذي يشاهد أنها ملجأة إليه إلجاء الساقط من علو إلى سفل لا يملك لنفسه شيئاً، لقدرته على الإيجاد بعد الإعدام، وبآثار الأنواء على مثل ذلك بأوضح منه - إلى غير ذلك من الدلالات التي يضيق عنها العبارات، ويقصر دون علياها مديد الإشارات، ولمثل هذه المعاني الجليلة والخطوب العظيمة جعل في الكلام اعتراضاً بين القسم وجوابه، وفي الاعتراض اعتراضاً بين الموصوف وصفته تأكيداً للكلام، وهزاً لنافذ الأفهام تنبيهاً على أن الأمر عظيم والخطب فادح جسيم، فقال موضحاً له بالتأكيد رحمة للعبيد بالإشارة إلى أنهم جروا على غير ما يعلمون من عظمتنا فعدوا غير عالمين: { وإنه } أي هذا القسم على هذا المنهج { لقسم لو تعلمون } أي لو تجدد لكم في وقت علم لعلمتم أنه { عظيم } وإقسامه لنا على ذلك ونحن أقل قدراً وأضعف أمراً إعلاماً بما له من الرحمة التي من عظمها أنه لا يتركنا سدى - كل ذلك ليصلح أنفسنا باتباع أمره والوقوف عند زجره، قال ابن برجان: ومن إتقانه جل جلاله في خليقته وحكمه في بريته أن جعل لكل واقع من النجوم الفلكية طالعاً يسمى بالإضافة إلى الواقع الرقيب دون تأخر، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى:
{ رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان } [الرحمن: 18] يجمع ذلك الشمس والقمر والنجوم وهي نجوم منازل القمر عددها ثمانية وعشرون منزلة سوى تحجبها الشمس فتمت تسع وعشرون منزلة يشتشرفها القمر، فربما استتر ليلة وربما استتر ليلتين، فالقمر ينزل في هذه المنازل كل ليلة منزلة حتى يتمها لتمام الشهر، وإما الشمس فإنها تقيم فيها أربعة عشر يوماً ويسمى حلولها في هذه المحال ثم طلوع المنزلة التي تليها لوقوع هذا رقيب لها نوء - انتهى، وهو يعني أن من تأمل هذه الحكم علم ما في هذا القسم من العظم، وأشبع القول فيها أبو الحكم، وبين ما فيها من بدائع النعم، ثم قال: ويفضل الله بفتح رحمته كما يشاء فينزل من السماء ماء مباركاً يكسر به من برد الزمهرير فيرطبه ويبرد من حر السعير فيعدله، وقسم السنة على أربعة فصول أتم فيها أمره في الأرض بركاتها وتقدير أقواتها، قال { وبارك فيها وقدر بها أقواتها في أربعة أيام } [فصلت: 10] في قراءتنا (فيها) بدل (بها) ا. ه. ثم قال: وجعل هذه الدنيا على هذا الاعتبار الجنة الصغرى، ولو أتم القسم على هذا الوجه ثم على الاعتبار تخفيفه الفيح وإنارته الزمهرير والسعير هي جهنم الصغرى.