التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٤
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢٥
-الحديد

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من جملة صفات المختال المكاثر بالمال البخل، وكان قد تقدم الحث على الإنفاق، وكان ما يوجبه لذة الفخار والاختيال التي أوصل إليها المال حاملة على البخل خوفاً من الإقتار الموجب عند أهل الدنيا للصغار، قال تعالى واصفاً للمختال أو { لكل }: { الذين يبخلون } أي يوجدون هذه الحقيقة مع الاستمرار { ويأمرون الناس } أي كل من يعرفونه { بالبخل } إرادة أن يكون لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة فيحامون عنهم أو أنهم يوجبون بأعمالهم من التكبر والبطر في الأموال التي حصلها لهم البخل استدراجاً من الله لهم بخل غيرهم لأنه إذا رآهم عظموا بالمال بخل ليكثر ماله ويعظم، وذلك كله نتيجة فرحهم بالموجود وبطرهم عند إصابته، فكانوا آمرين بالبخل لكونهم أسباباً له والسبب كالآمر في إيجاد شيء.
ولما كان التقدير: فمن أقبل على ما ندب إليه من الإقراض الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله شكور حليم، عطف عليه قوله ذاماً للبخل محذراً منه: { ومن يتول } أي يكلف نفسه من الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله { فإن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { هو } أي وحده { الغني } أي عن ماله وإنفاقه وكل شيء إلى الله مفتقر { الحميد * } أي المستحق للحمد وسواء حمده الحامدون أم لا، وقراءة نافع وابن عامر بإسقاط هو مفيدة لحصر المبتدأ في الخبر للتعريف وإن كانت قراءة الجماعة آكد.
ولما ظهرت الأدلة حتى لم يبق لأحد علة، وانتشر نورها حتى ملأ الأكوان، وعلا علواً تضاءل دون عليائه كيوان، وكان فيما تقدم شرح مآل الدنيا وبيان حقيقتها، وأن الأدمي إذا خلي ونفسه ارتكب ما لا يليق من التفاخر وما شاكله وترك ما يراد به مما دعي إليه من الخير جهلاً منه وانقياداً مع طبعه، وكان ختم الآية السابقة ربما أوهم المشاركة، قال تعالى نافياً ذلك في جواب من توقع الإخبار عن سائر الأنبياء: هو أوتوا من البيان ما أزال اللبس، مؤكداً لإزالة العذر بإقامة الحجج بإرسال الرسل بالمعجزات الحاضرة والكتب الباقية، معلماً أن من أعرض كلف الإقبال بالسيف، فإن الحكيم العظيم تأبى عظمته وحكمته أن يخلي المعرض عن بينة ترده عما هو فيه، وقسر يكفيه عما يطغيه: { لقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { رسلنا } أي الذين لهم نهاية الإجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، ومن الأنبياء إلى الأمم { بالبينات } أي الموجبة للإقبال في الحال لكونها لا لبس فيها أصلاً، ودل على عظمة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بأنهم لعلو مقاماتهم بالإرسال كأنهم أتوا إلى العباد من موضع عال جداً فقال: { وأنزلنا } بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها { معهم الكتاب } أي الحافظ في زمن الاستقبال في الأحكام والشرائع.
ولما كان فهم الكتاب ربما أشكل فإنه يحتاج إلى ذهن صقيل وفكر طويل، وصبر كبير وعلم كثير - قال الرازي: وبهذا قيل: لولا الكتاب لأصبح العقل حائراً ولولا العقل لم ينتفع بالكتاب، عقبه بما يشترك في معرفته الكبير والصغير، والجاهل والنحرير، وهو أقرب الأشياء إلى الكتاب في العلم بمطابقة الواقع لما يراد فقال: { والميزان } أي العدل والحكمة، ولعله كل ما يقع به التقدير حساً أو معنى، وتعقيبه به إشارة إلى أن عدم زيغه لعدم حظ ونحوه، فمن حكم الكتاب خالياً عن حظ نفس وصل إلى المقصود { ليقوم الناس } أي الذين فيهم قابلية التحرك إلى المعالي كلهم { بالقسط } أي العدل الذي لا مزيد عليه لانتظام جميع أحوالهم، هذا لمن أذعن للبينات لذات من أقامها أو للرغبة فيها عنده.
ولما كان الإعراض بعد الإبلاغ في الإيضاح موجباً للرد عن الفساد بأنواع الجهاد، قال مهدداً وممتناً ترغيباً وترهيباً معبراً عن الخلق بالإنزال تشريفاً وتعظيماً: { وأنزلنا } أي خلقنا خلقاً عظيماً بما لنا من القدرة { الحديد } أي المعروف على وجه من القوة والصلابة واللين والحدة لقبول التأثير يعد به كالبائن لما في الأرض، فلذلك سمي إيجاده إنزالاً، ولأن الأوامر بالإيجاد والإعدام تنزل من السماء على أيدي الملائكة لأن السماء محل الحوادث الكبار، والبدائع والأسرار، لأن الماء الذي هو أصله وأصل كل نام ينزل من السماء وتكون الأرض له بمنزلة الرحمن للنطفة.
ولما وقع التشوف إلى سبب إنزاله، قال: { فيه بأس } أي قوة وشدة وعذاب { شديد } لما فيه من الصلابة الملائمة للمضاء والحدة { ومنافع للناس } بما يعمل منه من مرافقهم ومعاونهم لتقوم أحوالهم بذلك، قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها. ولما كان التقدير: ليعلم الله من يعصيه ويخذل أولياءه، بوضع بأسه في غير ما أمر به نصرة لشيطانه وهواه وافتنانه، عطف عليه قوله: { وليعلم الله } أي الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، وأوقع ضمير الدين عليه سبحانه تعظيماً له لأنه شارعه فقال: { من ينصره } أي يقبل مجداً على الاستمرار على نصر دينه { ورسله } بالذب عنهم والدعاء إليهم، كاثناً ذلك النصر { بالغيب } من الوعد والوعيد، أي بسبب تصديق الناصر لما غاب عنه من ذلك، أو غائباً عن كل ما أوجب له النصرة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ينصرونه ولا يبصرونه - انتهى. فلم يدع سبحانه في هذه الآية لأحد عذراً بالرسل الذين هم الجنس مع تأييدهم بما ينفي عنهم اللبس، والكتاب العالي عن كلام الخلق، والعقل الذي عرف العدل، والسلاح الذي يرد أولي الجهل، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"بعثت بين يدي الساعة بالسيف" فبيان الشرائع بالكتاب، وتقويم أبواب العدل بالميزان، وتنفيذ هذه المعاني بالسيف، فإن مصالح الدين من غير هيبة السلطان لا يمكن رعايتها، فالملك والدين توأمان، فالدين بلا ملك ضائع، والملك من غير دين باطل، والسلطان ظل الله في الأرض، فظواهر الكتاب للعوام، ووزن معارفه لأهل الحقائق بالميزان، ومن خرج عن الطائفتين فله الحديد وهو السيف، لأن تشويش الدين منه - نبه عليه الرازي.
ولما كان طالب النصرة مظنة لتوهم الضعف، قال نافياً لذلك مؤكداً قطعاً لتعنت المتعنتين مظهراً للاسم الأعظم إشارة إلى أن من له جميع صفات الكمال لا يمكن أن تطرقه حاجة: { إن الله } أي الذي له العظمة كلها. ولما لم يكن هنا داع إلى أكثر من هذا التأكيد: بخلاف ما أشير إليه من الإخراج من الديار المذكورة في الحج ونحوه، قال معلماً بأنه غني عن كل شيء معرياً الخبر من اللام: { قوي } أي فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أولياءه { عزيز * } فهو غير مفتقر إلى نصر أحد، وإنما دعا عباده إلى نصر دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور، ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي، ببنائه هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب.